يمكن وصف بعض المنجزات بالوهمية، إذ ليس بالضرورة أن تكون الإنجازات الوهمية غير حقيقية بمعنى أنها غير موجودة أو لم تحدث، ولكن المقصود بالحقيقية هنا هي تلك التي تطال المواطن ويشعر بعائدها ويمكن قياس نتائجها. ماعدا ذلك ممكن أن تصبح الدراسات التي لا تنفذ نتائجها، والخطط التي لا ترى طريقاً للنور، والاستراتيجيات القابعة في إدارات التخطيط دون أن تصبح مشروعات تنفيذية، والتوصيات التي تحشد لها المؤتمرات، والأنظمة المقترحة أو المُعطلة، والأرقام المتفائلة بلا قاعدة إنجاز صلبة، إنجازات وهمية. ما هي مؤشرات النجاح في أي دولة. الدولة كيان ومجتمع ونظام. هذه العناصر التي تشكل نسيج الدولة لا يمكن فصلها عن بعضها ولا يمكن قراءة ملامح إنجاز بلا عودة لسجل الإنجاز الذي تحقق في الدولة المجتمع والكيان والنظام. لا تخلو صحيفة سعودية أياً كان يوم صدورها من عناوين لا يمكن تجاوزها دون أن يصرخ السؤال. قضايا تتكرر كل يوم تقريباً وتستعاد بين الحين والآخر وتصرخ فينا دهشة التوقف. أليست هي ذات المشكلات والقضايا التي تطل برأسها منذ أعوام وأعوام. أليست هي القضايا التي تتكرر كل يوم وتطفو على السطح ليغمرها فيض التصريحات المُسكِّنة لكنها تعود مرة أخرى بشكل أكبر وأفدح. البطالة بكل مظاهرها وآثاراها وتراكماتها - الفقر بكل عناوينه الصارخة والمتوارية - التعليم بكل قضاياه التي لم تحل منذ عقود، ولا زالت عناوين تذهب وتعود - الخدمات الصحية المتعثرة - زيارة أسعار المواد الغذائية وارتفاع كلفة المعيشة - الإسكان وقضاياه - المشكلات الاجتماعية التي أفرزت خللا اجتماعيا تعالج ظواهره لا جذوره - قضايا المرأة من قيادتها للسيارة إلى حق العمل - جنون العقار وسعار الأراضي التي حرمت 70% من السكان حلم امتلاك وحدة سكنية... وسلسلة طويلة من القضايا اليومية تكاد تهمين على مساحات واسعة من النشر. بالمقابل ستجد مؤتمرات عالمية وندوات محلية ومهرجانات وطنية تتمدد على مساحة واسعة من النشر اليومي، حتى لا يكاد يمر يوم دون أن يكون هناك حدث من هذا النوع على مستوى يتراوح بين الوطني أو الإقليمي أو العربي أو العالمي، وتأتي عناوين الاستثمار وأرقام فرص العمل الواعدة، والمشروعات المليارية الباهظة، والمنتديات الاقتصادية في المدن الكبرى، والاحتفالات بتوقيع مذاكرات، وإنجاز دراسات وعقد تحالفات وشراكات!!. وأرقام توزع بسخاء لحل المشكلات ومواجهة المعضلات. مؤتمر الحوار الوطني هذا العام عُقد في نجران ليناقش قضايا الخدمات الصحية. المشاركون يعودون من مناقشة واحدة من أبرز قضايا الخدمات وأكثرها إلحاحا. حسناً وماذا سيقدم مؤتمر حوار وطني في هذه القضية؟ جملة من توصيات ترفق ب مع التحية. وماذا عن وزارة الصحة نفسها وهل غابت عنها يومًا العناوين التي يمكن أن يثيرها المؤتمرون !!. الحوار الوطني تحوّل إلى جلسات نقاش وتوصيات نخب ولا أحد يعرف ماذا تحقق في السنوات الماضية، يكاد هذا المشروع الذي كان مبشراً أن يُفرّغ من مضمونه، إذ يتحول إلى مؤتمرات سنوية لمناقشة قضايا خدمية. الحوار الوطني الفكري يتوارى خلف مؤتمرات تعالج قضايا لا تقدم سوى المزيد من التوصيات والتوصيات. ألا يكفي أن يناقش مجلس الشورى هذه القضايا؟ أليست هذه مهمته؟ أليس هؤلاء الشورويون يجتمعون من أجل هذا؟. ألا توجد مؤتمرات أخرى تغني عن تلبيس قضايا وطنية ذات طابع خدمي فكرة الحوار الوطني، أليس هذا إفراغاً لفكرة الحوار الوطني من مضمونها لتتحول إلى حوار حول خدمات مازالت تبحث عمّن يكشف غطاء الكثير من التوصيات التي ظلت حبيسة الأدراج وأرشيف المركز. صندوق معالجة الفقر تحوّل إلى صندوق خيري، من يعرف ماذا حقق خلال تلك السنوات!!. هيئة إسكان لا نعرف إذا ما كانت لازالت تبحث عن أراضٍ شحيحة لتقيم عليها مشروعاتها أم أنها عندما وجدت الأراضي تعثر توفير التمويل اللازم. أزمة حديد وارتفاع مواد البناء، ووزارة تجارة تقيد الأسعار والمجلس الاقتصادي يحرر الأسعار!!. حديث لا يتوقف عن سوق العمل والبطالة والعمالة والاستثمار الوهمي . مجلس شورى يناقش ويراجع أنظمة ويصوت على مواد ولا يمكن قياس إلى أي درجة تعالج تلك الجهود قضايا مازالت تتراكم. تعليم اكتشفنا انه يحتاج إعادة صياغة عقول جديدة وأخيراً ظهر مشروع المليار لتطوير مناهج الرياضيات بعد أكثر من عشرة أعوام، فهل نتجاوز التعثر بهذه المناهج الجديدة؟ وماذا عن المواد الأخرى هل نحتاج لعقدين آخرين لتطويرها على طريقة مشروع المليار !!. ما يريح حقاً من أخبار أن يتحرك قطار الشمال يشق الصحاري يعلن قدوم وسيلة جديدة تحيي هذه البقاع الميتة. ما يعطي الأمل أن يستكمل مشروع جامعة في جازان لتبدأ في استيعاب طلبتها لتصبح مصدر إشعاع وتعليم وتنوير في منطقة عزيزة من هذا الوطن. ما يقاوم حيرة الانتظار افتتاح مستشفى في مدن نائية مجهز بأحدث التجهيزات والأطباء الأكفاء لعلاج العاجزين في أقصى البلاد. ما يحيي الأمل أن نرى أحياء الصفيح والصناديق الخشبية حول بعض المدن تحولت إلى حدائق ومساحات خضراء وانتقل أولئك السكان البؤساء إلى بيوت تحفظ لهم كرامة الحياة ومستوى لائقاً بالإنسان. شهادة الاستحقاق تكلل بإنجاز مميز في مدينة وقرية وناحية حيث نرى آثاراً حقيقية تعالج احتياجات إنسان مازال على قيد الحياة. قضايا الإنسان في بلدي هي محور كل حديث ومؤتمر وندوة ومقالة صحفي وحديث مسؤول. لكن السؤال إلى أين وصلنا في معالجة الخلل. هل علينا أن نتحدث عن الخلل عشرات السنين حتى تصبح مواجهة الخلل أزمة بحد ذاتها، لأن الأزمات بطبعها تراكمية وتزداد كلفتها مع مضي الوقت وتراخي الإرادة في المعالجة. بجانب هذا الخلل الذي لا يحتاج كثير جهد لاكتشافه. أليس من المجدي بدلاً من انهماك كل قطاع ووزارة ومؤسسة وهيئة في تنظيم مؤتمرات وندوات وعناوين دراسات مع الوعود الكثيرة التي تسبق وتلحق كل تصريح أو إعلان، أن تنشر أيضا كل عام بيانا بإنجازاتها. ليس الإنجاز المتعلق بالدراسات أو تنظيم المؤتمرات أو برامج التطوير على الورق، أو استعادة للخدمات التي تقدمها منذ عقود، ولكن الإنجاز الذي نلمسه تحولا على الأرض وهو لا يلبي احتياجات الحاضر فقط ولكن يؤسس لملامح مستقبل أيضا. لتقدم كل وزارة وقطاع خدمي في نهاية كل عام بياناً صغيراً بأهم إنجازاتها خلال عام منصرم ولتكن هذه شهادة استحقاق. ما هي القضايا التي تصدت لها وأنجزت حلولاً وقدمت فيها ما يعطي المعنى بممارسة الدور والوظيفة والمهمة التي أنشئت من أجلها. لتقدم كل منها جردة حساب عن عام مضى ليس على طريقة التقارير السنوية التي تعدها كل وزارة وترسل نسخة منها للمعنيين، وليس على طريقة التقارير الضبابية التي تحشد فيها عبارات مثل عملت ونظمت وحاولت وساهمت ... ليكن بياناً لا يعلن سوى الإنجاز الذي تحقق خلال عام وليكن إنجازاً مشهوداً ويعالج ما يدخل في صلب مهمة الوزارة أو المؤسسة أو الهيئة. ستكشف تلك البيانات قطاعات وجهات التي إما إنها متوقفة عند إدارة قطاع ومنهمكة بإعداد المزيد من الدراسات ومحاضر اللجان وإعادة الهيكلة ومراجعة الأنظمة، وربما تجنح لتبرير تواضع الإنجاز برمي جزء من المسؤولية على قطاعات أخرى، وإذا استطاعت أن تلزم الصمت فهو خير حكمة.