جاء المهرجان الأول للتراث والثقافة قبل 25 عاما. في السنوات الأولى من العمر، كان مبهجا وجذابا وله رونق المولود الجميل واحتفاء السنوات الأولى. عملت مؤسسة الحرس الوطني العسكرية على إبداع مهرجان وطني سنوي للتراث والثقافة، حمل معه بالإضافة إلى ملامح التراث والتعريف به واستعادة احتفالية وطن، جدلا فكريا في ندوات المهرجان الثقافية أضفى على تلك المناسبة معنى آخر. السؤال اليوم، بعد ربع قرن من عمر المهرجان الوطني للتراث والثقافة ألا تتطلب المرحلة إعادة النظر من اجل تطوير فكرة المهرجان أو تعديل إطارها؟!. هذا العام جاء المهرجان متزامنا مع معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي كان له حضوره في المشهد الثقافي. فعاليتان كلاهما تحملان مشروعا ثقافيا. هل مازالت ندوات المهرجان الوطني الثقافية لها ذات البريق السابق؟. وماذا عن الفعاليات الثقافية التي تعبر عنها وزارة لم تعد معنية بالإعلام ولكن بالثقافة أيضا؟... ومع تقدير كل هذا الجهد، فالمهرجان الوطني للتراث والثقافة يحتاج قراءة متجددة، ووزارة الثقافة والإعلام مازال أمامها عمل طويل لتقديم مشروع ثقافي أوسع من احتفالية معرض وبضع محاضرات ثقافية كثير منها لا يتمتع بالجاذبية. استعادة مشروع ثقافي لواجهة الوطن ليس احتفالية ثقافية موسمية. إنها أيضا مهمة البحث عن ملامح مشروع ثقافي يقوى على استعادة مفهوم الثقافة لواجهة الاهتمام الشعبي، كما يدعم رؤية فكرية ترى أن الثقافة ليست مجرد كتاب ولا برنامج محاضرات ثقافية خلال العام، ولكن برنامج يحمل صفة المشروع الثقافي الوطني من اجل خلق حالة تنتزع جيلا من أجواء الركود الذهني إلى الاهتمام بعناصر فاعلة في بناء الشخصية الوطنية والإنسانية، وهو أيضا ضمانة كبيرة لمواجهة مشكلات العزلة أو التعصب أو الانكفاء على الذات والنظرة الضيقة للحياة. يُحسب لمؤسسة الحرس الوطني مبادرتها المبكرة بتقديم المهرجان، ووضعه في أجندة وطن في كل موسم يستعاد فيه التراث إلى جانب الثقافة. لقد ساهمت هذه المؤسسة في تحريك أجواء ثقافية كانت تعاني من حالة ركود. وقدمت بالإضافة للتراث والثقافة جملة فعاليات ومسابقات وبرامج كانت ومازالت عنوانا لهذا المهرجان. كما أن تحويل وزارة الإعلام قبل عدة سنوات إلى وزارة للثقافة والإعلام جاء وسط احتفاء المثقفين بأن يكون هناك وزارة تُعنى بالشأن الثقافي، وتجمع عناصره، وتطور فعالياته، والأكثر أهمية بناء مشروع ثقافي لا باعتباره مشروعا يتوجه للنخبة، ولكن يستهدف المجتمع برمته. استدعاء مشروع ثقافي وطني هو استدعاء للثقافة باعتبارها عنصر بناء وتكوين، فالثقافة قدر ما هي منتج إبداعي، هي أيضا صناعة وحاجة إنسانية، وتدخل ضمن محفزات الوعي وتطوير الذات، وتقاوم بأفقها الواسع بعض مصادر الثقافة البديلة التي كشفت السنوات الماضية عن خطورتها وتراكم تأثيراتها. بعد ربع قرن من عمر المهرجان، وبعد أن أصبح هناك وزارة للثقافة، وبعد أن طرأت الكثير من التحولات في الداخل، سواء في مجال الاتصال وتدفق المعلومات والإعلام العابر للفضاء، وأمام حاجة وطنية حقيقية لاستعادة جيل من براثن الهامشية أو التعصب أو الانكفاء على الذات الصغيرة، لابد أن يطرح سؤال الجدوى والتطوير. ولعلي أقترح في هذا الشأن بضعة أفكار، ربما تكون استعادتها في هذه المناسبة تحمل أيضا شيئا من الأهمية توفيرا للجهود وتعزيزا لحضور المشهد الثقافي: أن تتحول قرية الجنادرية إلى قرية للتراث، تشرف عليها هيئة السياحة باعتبارها مشروعا تراثيا وترويحيا أيضا. وأن يتم الفصل داخل القرية بين التراث وأي ملامح لانجاز وطني معاصر، وأن تكون تعبيرا عن التراث وفنونه وأدواته ومنتجاته في كافة أنحاء المملكة. أي أن تصبح قرية تراثية فحسب. تستعيد تراث مناطق المملكة وتتفتح مواسم قد تطول أو تقصر خلال العام، وتصبح متنفسا في صحراء الرياض تحمل معها بالإضافة إلى مشغولات التراث وعناصره الأخرى، أماكن للاسترخاء تصمم بطريقة تراثية، ومطاعم تقدم طعاما تراثيا، وستكون أيضا مصدرا مستمرا للدخل لمن يقوى على إنتاج مشغولات تراثية أو يعمل فيها. التراث يجب التعامل معه بما يتجاوز موسمية احتفال. ومن الجميل أن يكون شاهدا تاريخيا، تستعيده أجيال، وتزوره الأسر، وتنظم إليه الرحلات، وسيكون إضافة لمدينة الرياض، ومعلم قرية تراثية في قلب الصحراء. ان تتحول القضية الثقافية برمتها لوزارة الثقافة، وان تصبح هي المسئؤولة عن تقديم مشروع ثقافي وطني حافل. موسمية معرض كتاب لا تغني عن البحث في ملامح ذلك المشروع. واستعادة مؤتمر، أو مؤتمرات لمناقشة المسألة الثقافية كفيل بوضع تصور للمسؤولين عن هذا القطاع عن نظرة المجتمع الثقافي لملامح هذا المشروع. معرض دولي للكتاب لا يغني عن البحث في ملامح مشروع يتجاوز كتابا وقارئا وبضع محاضرات عن الثقافة البرازيلية. معرض الكتاب بفعاليات متنوعة تجمع بين الكتاب والمحاضرات والمسرح والفولكلور قادر على صياغة مشروع ثقافي موسمي مختلف، وذي جاذبية، تحشد له القدرات فيعطي للرياض نبض الحياة الاجتماعية/ الثقافية. يمكن أن يكون المهرجان الثقافي الوطني مناسبة أيضا لتكريم عطاءات ثقافية على مستوى الأدب أو الفكر أو الفنون التشكيلية أو المسرح. فهذا الفقر الشديد في تخصيص جوائز ثقافية مازال يثير السؤال عن هذا التوقف المريع وهذا الخمول الثقافي. الاحتفاء بالطاقات والكفاءات والإبداعات في مجالات ثقافية متنوعة هو تعزيز للمعنى الثقافي في عقل جمهور. ما الذي يمنع أن يكون هناك موسم ثقافي، تتحرك فعالياته بين معرض كتاب دولي وجوائز تمنح لأفضل الأعمال الصادرة في مجال الأدب أو الفكر أو الثقافة العلمية الموجهة للجمهور؟ ، ما الذي يمنع أن يكون فرصة لاستعادة مؤتمر سنوي للمثقفين السعوديين، ومؤتمر للناشرين السعوديين .. ما الذي يمنع أن يكون مهرجانا ثقافيا يتذوق فيه المجتمع نسائم ثقافية تتجدد وتقدم نفسها باعتبارها مشروعا وطنيا لا مشروعا نخبويا ضيقا.؟ النشاط الثقافي هذا العام حمل معه ازدواجية وتكرارا للجهود غير مبررين. ولذا لم تكن هاتان الاحتفاليتان سوى جهد مكرر. رصد مدير إحدى محاضرات فعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة 15 حاضرا فقط مما يوحي بالحرج الكبير للمحاضر ولمدير الندوة ولإدارة المهرجان. لم يكن هذا ليحدث لولا أن كان ثمة عزوف عن برنامج المهرجان الثقافي لأسباب تتعلق بموضوعات المحاضرات أو الندوات، بالإضافة إلى تزامن هذا المهرجان مع معرض الرياض الدولي للكتاب. سباق الهجن، أو بعض فعالياته التي بدأ بها المهرجان ومازالت مناسبة ينتظرها جزء من المجتمع، يمكن ترحليها لمهرجان آخر قد يأتي تحت عنوان" مهرجان الإبل السنوي" ويمكن أن ينظم بحيث يكون بديلا كذلك عن مهرجانات المزايين التي أُخذ عليها الكثير من استدعاء الحس القبلي والتعصب له. ويمكن أن يصبح المهرجان علامة موسمية في إحدى مناطق المملكة وترحل له تلك الفاعلية. الذي يمكن أن يكون سباقا للهجن، ومهرجانا لاكتشاف المزايين في وقت واحد، وسوقا أيضا كبيرة يستفيد منها مربو تلك النوعيات الخاصة من الإبل. ضيوف المهرجان الوطني للتراث والثقافة يستدعي سؤالا مهما. فكثير من ضيوف المهرجان وجوه تتكرر كل عام، وهي لا تعدو أن تكون ملاحظة شخصية. وإذا كانت الفكرة من الدعوات الكثيرة لشخصيات ورموز ثقافية عربية كان لها وجاهتها فيما مضى، وأدت دورا مهما في التعريف بالمملكة قبل خمسة وعشرين عاما عندما بدأ المهرجان في سنواته الأولى ..فهل هي مازالت الفكرة فاعلة اليوم. ألا يمكن تطوير فكرة الدعوات في المستقبل - في حال أن تصبح جزءا من برنامج ثقافي تصممه وزارة الثقافة الإعلام - لتكون أكثر انتقائية وتجعل من المهرجان إضافة ثقافية. ألا يمكن أن يتم إعادة النظر في طريقة الدعوات بحيث يتحقق فيها طيف جيد من الشخصيات العربية التي حققت انجازا في حقل ما. سواء حقل الأدب أو الفكر أو الاقتصاد أو العلوم الطبيعية؟ وان يتم هذا بالتنسيق مع قطاعات أخرى من أهمها الجامعات السعودية. ويمكن أيضا وضع برنامج لهؤلاء يتضمن ترتيب محاضرات في بعض الجامعات السعودية أو النوادي الأدبية أو القطاعات التي لها صلة بالنشاط الذي بروزا فيه. وبذلك تتحقق فضيلة الدعوة لزيارة المملكة، مع إمكانية إدارة حوار مع هؤلاء في قضايا لها علاقة بتخصصهم واهتماماتهم ووضعهم في المشهد الثقافي والعلمي والاقتصادي للمملكة. هذه بعض المقترحات لعلها تسهم في الاستفادة بصورة أفضل من مجهود لابد من محاولة استعادته للقراءة في كل عام، بدلا من البقاء في حضن ما تحقق حتى اليوم، وليست أيضا بديلا عن مشروع ثقافي وطني عليه أن يخرج للنور عبر استراتيجية لها ملامح وحضور.