«سلامٌ كله قُبَلُ، إني راحلٌ عَجِلُ»، وتقولين، يا لاذقيتي، تعال، وها قد أتيت، وسآتي، ولكن من يدري، فربما خان العمرُ، من يدري، يا عرس البحر، من يدري، أنت، أنا، أو «مديناً»، فرحة هذه المدينة، حين «الأورغ» تحت أناملها الموسيقية، يعزف لحناً للفرح، أيام الفرح، ويعزف لحناً للحزن، أيام الحزن، وهل من حزن أكبر، أوجع، وغزة تحترق!؟ آخ يا وطننا العربي الكبير، إننا نكبر فيك، لتكْبَرَ فينا، وهذا ما كان، يوم كنا، في مزدلف الشوط، لنا السبق، ولنا الهبوات الحمر، في قراع المستعمرين، والطامعين، والضاغطين، من كل صوب، وكل حدب، وكل مأتى ومندى، والنصر في ركابنا وثوباً على الأذى، حتى يندحر الأذى، وتكون الزغاريد «نقد جُنَّ الإباء من نعميات الله هذي الكبرياء». التاريخ لا يعيد نفسه، إنما الأطماع بنا، ومن حولنا، تعتادنا، بعد أن بدّلت أثوابها، وغيّرت ألوانها، وزركشت غاياتها، والقصد واحد، هو دحرنا، وسرقة أرضنا، ومياهنا، وأرزاقنا، وتمزيق وحدتنا، حتى نصبحَ فرادي، ونُؤخذ فرادي، ونُؤكل فرادي، وهذا، في الفرقة التي نحن فيها، ما أغرى الأعداء بنا، من نازية إسرائيل، إلى عدوانية أمريكا، إلى ثعلبية بريطانيا، صاحبة وعد بلفور الشهير، إلى حرباوية الصهونية، ومن معها سراً تارة، وجهراً أخرى، إلى الذين، في بلدان الشمال، يخفون أظافرهم المسنونة، في قازاتهم المخملية الملونة أبد الدهر. آخ ياوطننا، آخ يا بلدنا، آخ أيتها السلاطة، فشاعرنا الكبير، الذي كان يغني أمانينا، رحل مع أمانينا، في غربة الصمت، وبعده تاه السامر الحلو.. وتفرق الصحب «سماراً وندمانها» وغزة تحترق، وقلوبنا، معها، تحترق، إلا أن الحديد لا يفلُ إلا بالحديد، وسيأتي زمن حديدنا، عندما تتوحد، حوله، قوانا، «ونظار تطلع على الدنيا سرايانا». أيها البحر، يا بحرنا، إياك وغواية اللجة الزرقاء، فمع الشبل الأتّي، يأتي الطوفان، ومن سكونك تنبثق العاصفة، والنوارس البيض، تعرف، وتحسن، المروق من زرد العاصفة، لترتفع عليها، ولن نكون صغاراً، مع الذي قال «ونحن المبار بآمالهم/ صغار بخيبات آمالنا» فقد عرفنا خيبة الآمال، مرة، ومرة، ومرات، دون أن نصفر، وقد تعلمنا، في مدرسة النسيان، مكر التاريخ وآفة النسيان، وعرفنا مَن الذي وفى، ومَن الذي خان، ومَن الذي ساق الريح أمامه، ومَن الذي ساقته الريح أمامها، ومن الذي لقي السيوف بصدره، ومَن الذي أبقى السيوق في أغمادها، ومَن الذي أشعل الثورة الكبرى» ومَن الذي سعى لإطفائها، فتأبت، وأشرأبت، وتناسلت ثورة بعد ثورة، من الفوطة إلى الجهات الأربع، في هذا البلد الحبيب، وقد ذبحنا مع الأخوة الذين ذبحوا في فلسطين، وما زالوا في الصامدين، وبالعروة الوثقى متمسكين، وهذا، في قانون الكفاح، هو الكفاح، والجراحات فمٌ، والفم يعرف الصمت، كما يعرف الكلام، والجرحى، من الأفال والنساء والشيوخ، تصمت أفواههم، وتتكلم النزافات في جسومهم، وتنطبق، في غلاب القتلة، جفونهم، إلا أن أبصارهم ترى، تسمع تلعن، وبالأمل، والجلال، تتكفن، لو أن مزق الضحايا، يتاح لها أن تتكفن! الحديد لا يفلّه إلا الحديد قلت، وأكرر، لكن ماذا أفعل وليس لدي، أو لدى الأدباء المبدعين أمثالي، سوى الحروف المقدسة، ومنها الكلمات المضمخة بالطيب والغاليه، وهذه للغزل تكون، وللرومانسية تكون، ونحن لسنا في وقت العزل والرومانسية، نحن في الأوقات العصيبة، «تعالوا وانظروا الدماء تسيل في شوارعنا» قال نيرودا، وما شوارعنا إلا غزة، والدماء القانية، أرجوانية، عند مية اللون، تسيل في بيوتها، مدارسها، مساجدها، كنائسها، وتتجمد تحت أنقاضها، وبين أنامل الممزقين من أطفالها، وعلى صدور، وفي أحضان، وسواعد، ووجوه الحرائر من نسائها! إن شأن الكلمة صياغة الوجدان، وهل بقي وجدان يفيد صياغة، وهل ثمة بين المناضلين، المفادين، الخائفين في أنهار الدماء، من لم يخض في مستنقعات الموت، حتى تصوغ الكلمات وجدانه، دفعاً به إلى التضحية، والأضاحي، ممزقة الأشلاء، تملأ غزة، من الجهات الأربع؟ إنني في اللاذقية، ومن اللاذقية أكتب هذه السطور المفجعة، فمن يوصلها، بعد أن مات «ساعي بريد نيرودا» مع نيرودا، في محنة تشيلي وجلاءها بينوشي، وليس لي مع ثورة المعلوماتية نسب، وكل أدواتي، حتى في هذا الزمن، أوراق وقلم! فيا أمتي، هل لك بين الأمم «منبر للسيف أو للقلم؟» وفي الجواب تأتي نعم، ففي سورية الأبية منابر للسيوف وللأقلام، لكن الظروف لها أحكام وأزمان، وليس من فائدة، لغزة أو لنا، وليس من السياسة، و«الساسة في القيادة» حتى لو جازفنا، وألقينا بأنفسنا إلى التهلكة، دون أن تنضفر العزائم، وتتوحد، في الأمة العربية، والمواقف والكلمات، وهذا ما هو المطلوب، وهذا ما سوف يصير، بغير «مت»؟ ودون آن أو أوان! فيا دمشقي العزيزة! أنا «طروسي» هذا الزمان، فإذا قيل البحر، أدرك السامعون مَن المعنى، إلا أن البحر، في اللاذقية، ليس هو ذاته، فقد غاضت زرقته، وطفت حمرته، فصار لونه قرمزياً، وراح يبكي، وقلبي، من ألم، معه يبكي! والأرغن، تحت أنامل «مدينا» وبدوره يبكي، دون فائدة، أو أجر، أو جزاء، فلسنا، في النائبات، ممن يبكون، بل يغادرون، إلا أن الفداء يتطلب عدته، وهذا هو الدرس الذي علينا أن نتعلمه، ومن جراح غزة، وقبلها، وبعدها، تعلمناه.