حين تشاهد شخصا يبتسم تتحفز لديك منطقة في الدماغ تتحكم بملامح الوجه فتجد نفسك تميل للابتسامة والضحك معه .. وحين تتحول ابتسامته الى ضحك (أو يرتفع عدد الضاحكين حولك) يزداد تحفيز هذه المنطقة لديك فتضحك معهم بشكل أقوى وأعلى وهو ما يفسر حماس جمهور الكوميديا وضحكه من أي حركة أو كلمة بسيطة يقولها الممثل!! ... والغريب أكثر أن نفس هذه المنطقة يتم تحفيزها بنفس الطريقة حين ترى شخصا يتثاءب أو يبكي أو يعطس فتميل معه للتثاؤب والبكاء والعطس (وهو ما يفسر جلسات النواح والبكاء الجماعي، وحالات التثاؤب التي تصيب الساهرين في نفس الغرفة ، وحالات العطاس المفاجئ التي ننسبها خطأ لحساسية الموقع) !! وفي الماضي كان وجود مهرج (أو مضحك) من الوظائف الرئيسية في قصور الملوك والأباطرة وكان مجرد الاعلان عن حضوره يحفز المنطقة "إياها" ويجعل الجمهور أكثر استعدادا للضحك.. وفي عصر النهضة كان المهرجون الرسميون يأخذون أعلى الأجور ولا يفوقهم في ذلك غير المنجمين الكبار .. وفي زمن العباسيين والعثمانيين كان إضحاك السلطان أمرا يؤخذ (بجدية كبيرة) باعتباره وسيلة ل"إعادة التوازن" لنفسية الحاكم والتخفيف من ضغوط الحكم والإدارة .. واليوم أصبح وجود "المهرج" أمرا أساسيا في المستشفيات المتقدمة يرافق الأطباء أثناء مرورهم على المرضى خصوصا في أقسام الأطفال .. فكثير من المستشفيات اكتشفت من خلال الملاحظة والتجربة أن إضحاك المريض يقوي مناعته، وينشط دورته الدموية، ويضاعف تأثير العلاج عليه.. وقبل أيام قليلة فقط قرأت عن تجربة أجريت بجامعة ماريلاند تثبت فائدة الضحك للقلب والجهاز الدوري عموما . فقد اتضح أن مشاهدة فيلم كوميدي واحد يدعم الجهاز الدوري ( لثلاثة أيام ) ويؤثر بطريقة إيجابية في تدفق الدم ومستوى التجلط والاصابة بأمراض القلب والشرايين .. وكان باحثون من نفس الجامعة قد أجروا دراسة شملت 150 متطوعا أثبتت أن من يبتسمون كثيرا أو ينظرون دوما للجانب المضحك في الحياة اقل عرضة للإصابة بأمراض القلب بنسبة أربعين بالمائة.. أما من الناحية النفسية فاتضح وجود ترابط بين المشاعر الإيجابية وانخفاض هرمون الكورتيزون المسبب للتوتر.. كما اتضح أن الضحك يحفز مراكز المتعة والسعادة في الدماغ ويحثها على إفراز مورفينات مهدئة تخفف من الألم والتوتر وتحسن الحالة النفسية والمزاجية للإنسان في حين ثبت أن الاستماع للأخبار السيئة قد يحطم القلب فعلا ويضعف جهاز المناعة والدورة الدموية (وقد يسبب الوفاة المفاجئة كما حدث مع انهيار الأسهم عام 2006) !! ... وفي المقابل لا أفهم كيف يعتقد البعض أن العبوس والصرامة (وتصنع الثقل والرزانة ) دليل على الزهد والصلاح ورفعة المنزلة ؛ فقد ورد عن سيد الخلق (وإمام الصالحين) أنه كان كثير الابتسام رقيق الكلام حسن المعشر يقول عنه جرير بن عبدالله " ما رآني رسول الله إلا تبسم في وجهي" .. كما وردت عنه صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة تثبت ضحكه مع زوجاته وأصحابه والوفود القادمة عليه . ومن القصص التي تجمع بين سماحة الدين ولطف المعشر أن عمر بن الخطاب استأذن للدخول عليه وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه . فلما سمعن بدخول عمر صمتن وقمن يبتدرن الحجاب فأذن له الرسول وهو يضحك .. فقال عمر : أضحك الله سنك يارسول الله ... فقال الرسول : عجبت ممن كن عندي لما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" فقالت النسوة "نعم ؛ لأنك ياعمر أفظ وأغلظ من رسول الله" ! ...كثيرا ما أقول إن أفضل علاج للتشدد شيئان : إعادة تفعيل الابتسامة ... وإعادة قراءة سيرة الرسول ...