فئة عزيزة من فئات المجتمع، شاءت إرادة الله أن تأخذ منهم وتعطيهم، فأخذت منهم بعض قاماتهم نتيجة لبعض التعقيدات البيولوجية أو الأمراض الوراثية، ومنحتهم في المقابل ما منحت الأسوياء وربما أكثر، لكنهم يتعذبون بنظرات الفضول من البعض، ونظرات الشفقة من البعض الآخر، مثلما يتعذبون من عدم تكافؤ الفرص ما بينهم وبين غيرهم.. فالأنظمة لا تعاملهم تحت عنوان الإعاقة، وهذا جيد لو لم تحل الأنظمة ذاتها بينهم وبين العديد من الوظائف، مما يجعلهم مصنفين ضمنياً في خانة بين الخانتين.. خانة الإعاقة وخانة الأسوياء. لا أحد يتحدث عنهم ولا عن همومهم وآمالهم وأحلامهم وتطلعاتهم، بعضهم تصالح مع ظروفه وحولها إلى نقطة تميز عندما سخرها لصالح موهبته ليعلن عن ذاته في ميدان ما من ميادين الحياة، فيما انزوى البعض الآخر اتقاء لنظرات الفضول وبسمات السخرية من الجهلة ليبتعد عن الظهور في الحياة العامة ما أمكنه ذلك. لا يزال المجتمع للأسف أو معظم أفراده على الأقل يرتهنون في رؤيتهم للقزمية على مقاييس الطول للبدن، ويجهلون أو يتجاهلون أن هذا المعيار يظل معياراً مشوهاً وشكلياً وناقصاً، فكثير من كاملي الأبدان يعانون من أشد أنواع القزمية في العقل والتفكير والعكس صحيح.. لكن سيادة منطق الرؤية للمظاهر طغى على كل شيء وأبقى هؤلاء تحت رحمة الرؤية القاصرة. متى يفتح ملف هؤلاء؟.. ومتى يستردون حقوقهم؟ وأولها الحق الاعتباري كمواطنين لهم ما لسواهم وعليهم ما عليهم، متى يعرف قصار القامة أين يضعهم النظام.. هل يضعهم في صف المعاقين أم في صف الأسوياء، فإذا كانوا معاقين فلماذا لا يأخذون حق المعاق؟، وإن كانوا أسوياء فلماذا لا يساوونهم في فرص التوظيف وسواها من الحقوق؟. الاستغلال! ولعل أسوأ أساليب التعامل مع قصار القامة ما يلجأ إليه الفن أحيانا في استغلال ظروف هذه الشريحة ، ودفعهم بلا موهبة للعمل الفني، استدرارا للضحك لا منهم وإنما عليهم.. خاصة عندما يرتبط المشهد التمثيلي ببعض الحركات التي لا تتلاءم مع أطوالهم، وهو ضرب من السخرية السخيفة التي تبلغ درجة التهكم، وبما لا يليق بآدمية هؤلاء، والفن العربي بأفلامه ومسرحياته وتمثيلياته يزخر للأسف بالكثير من هذا النوع من المشاهد.. وهم بهذه الطريقة الاستغلالية يكرسون في أذهان مشاهديهم تلك الرؤية القاصرة التي كان من الواجب التخلص منها، لترقية الحس الإنساني والتعامل مع قصار القامة كآدميين كاملي الأهلية، وليسوا مادة.. مجرد مادة للسخرية أو التندر. ملامح المعاناة يقول أحد قصار القامة: انه بعدما أتم تعليمه الجامعي تقدم لوظيفة معلم فتم رفضه بحجة قصر قامته، رغم أن تخصصه وثقافته التربوية قد تبز أقرانه بفارق كبير، لكنه اقتنع بوجهة نظر المسئولين في التربية على اعتبار أن مجتمعات الطلاب التي هي بالنتيجة جزء من النسيج الاجتماعي العام مجتمعات لا ترحم، وقد يجد نفسه مادة لتندر التلاميذ.. مما جعله يصرف النظر عن المطالبة بالعمل في سلك التعليم.. غير أنه والحديث لا يزال له عانى الأمرين في الحصول على وظيفة مكتبية دون أن يعرف سبباً مقنعاً سوى قصر القامة الذي لا محل له من الإعراب هنا!؛ إلى أن جاءه الفرج بعد سنوات عجاف سمع خلالها من الردود والصدود ما يكفي لتقويض نفسيته ودفنها في مستنقع من وحول العقد لولا الله ثم قدرته الخارقة على المجالدة. المجتمع وصناعة القزم ولأننا انشغلنا كثيراً بمقاييس الطول وبسطة الجسم فقد صنعنا الكثير من الأقزام بأيدينا ودفعنا بهم إلى مواقع فوق قدراتهم وإمكاناتهم، صنعنا الكثيرين من المديرين الأقزام ممن لا يجيدون سوى إغلاق الأبواب، وإشعال الضوء الأحمر فوق أبواب مكاتبهم، وممن تدور معاملات الناس بين أيديهم، وحين تنتهي إليهم لا يجدون ما يوجهون به سوى عبارة "حسب النظام" أو "للمفاهمة" وما سواهما من العبارات الهروبية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. صنعنا أقزامنا بأيدينا من فارعي الطول، وأقزام العقول، ممن لا يحسنون قيادة قطيع من الماعز فضلاً عن أن يديروا جهازاً خدمياً يهتم بخدمة الناس وتسيير شئونهم، لذلك ضج المجتمع بالشكوى من تراجع الخدمات في معادلة لا يمكن أن تستقيم أبدا مع ما تنفقه الدولة وبمنتهى السخاء على مرافق الخدمة العامة. القزمية ليست وحدة من وحدات مقاييس الطول والعرض، وإنما هي مسألة تتصل بقياس العقل، وقياس القدرة على تحمل المسئولية، وقياس الابتكار والإبداع في الأداء، والخروج من النمطية دون الإخلال بالضوابط، هي معيار عقلي وليس بدنيا، وهذا ما يجب أن نحتكم إليه، وهنالك الكثير من الأمثلة التاريخية من المبدعين والمخترعين من ذوي العاهات الجسدية ومن قصار القامة ممن حققوا انجازات عظيمة لا تتجاوز مقاييس أبدانهم وحسب، وإنما تتجاوز الجبال طولاً. أمثالنا الشعبية كلها تصب في صالح قضية "المخابر" على حساب "المناظر".. لكن الواقع المعاش يقول بخلاف ذلك.. فلا تزال الرؤية للمناظر والاحتكام إليها، والعمل بموجبها هو الذي يحرك كل مفاهيمنا للقزمية والتقزم، بقينا عاجزين للأسف عن الانعتاق من التبصر بمعيار القزمية، المعيار الأمضى والأشد وطأة، والذي يرتبط بتقزم القدرات الفكرية والعقلية، والتي تصيب المجتمع في مقتل لأنها تتعامل بلغة الباع والذراع، ولا تتعامل بلغة القدرات، والفروق الفكرية القادرة على صنع الفارق لصالح العمل العام. طبعاً بالتأكيد نحن ندرك أنه ليس بوسعنا وببضع كلمات أن ننتزع رؤية راسخة على مدى دهور طويلة من الذهن الاجتماعي، لنضع البديل الموضوعي لها، هذا مستحيل، لكننا فقط أردنا أن نحك هذا الحجر ولو بأظافرنا إنصافا لفئة غالية لم يسمع أحد لها صوتاً رغم كل ما تعانيه من هزائم نفسية، ومن نظرات سوقية على مدى دقات الساعة.. لنعيد ذات السؤال: من ينصف هؤلاء؟. لعل وعسى..