الوجدان العربي.. شاعر على مَرَّ العصور.. تهزه كلمة طيبة حتى يفيض بالتأثر والامتنان.. وتغضبه كلمة حتى يثور وقد يدفع صاحبه للقتال.. والوجدان العربي - في مجمله - كريم.. رحب.. حساس.. متعاطف.. ومضياف.. الوجدان العربي في سعة صحراء العرب.. خلَّد مواقفه في قصائد تناقلها الدهر وسارت بها الركبان.. ونحن نقدم غيضاً من فيض هذا الوجدان.. (زوج يطحن بالرحى) من شواهد النحو التي درسناها ونحن طلبة في كلية اللغة العربية: تقولُ - ودقَّتْ صدرها بيمينِها: أَبَعْلي هذا بالرَّحَى المتقاعِسُ وكان الأستاذ يشرحه كشاهد نحوي فقط.. بمعزلٍ عن المناسبة وباقي القصيدة.. فكان البيت يثير فينا التعجب والابتسام.. والضحك أيضاً.. كُنَّا نتصور أمرأةً رأت زوجها يطحن بالرحى فدقت صدرها بيدها ذهولاً وصكّت وجهها استغراباً واستهجاناً لِمَا فعل.. وكنا نتخيل الزوج في رسم (كاريكاتيري) ترسم خطوطه لفظة (المتقاعس) فإما أن يكون قد تقاعس عن أفعال الرجال وقنع بأن يطحن بالرحى، وذلك عمل النساء في العصر الجاهلي.. أو أنه قد أحدب بظهره متقاعساً على الرحى ليقوى على الدوران بها.. ولكنني حين بحثتُ عن البيت وجدته من قصيدة معبرة وردت في (حماسة أبي تمام) وهي تُقَدَّم لنا «لفظة» من الوجدان العربي.. ورد في الحماسة 1/353 «وقال الهُذْلُولُ بن كعْبِ العنبري حين رأته امرأتُهُ يطحن للأضيافِ فقالت: أهذا زوجي؟! وضربتْ بيدها.. فأُخْبِرَ بذلك فقال: تقولُ - وَدَقَّتْ صدرها بيمينها أبعلي هذا بالرحى المُتقاعِسُ؟! فلقتُ لها لا تعجلي وتبيَّني فَعَالي إذا التفَّتْ عليَّ الفوارِسُ ألستُ أَرُد القِرْنَ يركبُ دِرْعَهُ وفيهِ سِنَانٌ ذو غِرارينِ يابِسُ واحتمِلُ الأَوّقَ الثقيلَ وامتري خُلُوفَ المنايا حين فَرَّ المُغَامِسُ إذ خامَ أقوامٌ تَقَحَّمّتُ غًَمْرَةً يهابُ حُمَيَّاها الألدُّ والمُدَاعِسُ وأَقرِي الهمومَ الطارقاتِ حزَامةً إذا كثُرَتْ في الطارقاتِ الوساوسُ لَعَمْرُ أبيكِ الخيرِ إنِّي لخادِمٌ لضيفي، وإني إنْ ركبتُ لَفَارسُ وإني لأشري الحمْدَ أبغي رَبَاحَهُ وأتركْ قِرْني وهو خَزيَانُ تاعِسُ المتَقاعس: الذي دخل ظهره وخرج صدره. الأوق: العِبء، أمتري خلوف المنايا: أجد للمنية طعماً عذباً إذا كُنْتُ في الوغى. والمغامس: هو قاطع الطريق الذي يريد قتل من يصادفه ونهبه فإذا وجد صنديداً فرّ.. خام: جَبُن، المداعس: الطاعن. والمعنى يذكرني بقول المُقَنَّع الكندي: وأني لعبدُ الضيفِ ما دامَ نازلاً وما شيمةٌ لي غيرها أشْبه العَبْدَا لقد كان الضيف شيئاً مُقَدَّساً في الوجدانِ العربي، يفرح به العربي، ويفخر بخدمته، حتى إن الشاعر أخذ يطحن له وقد أحدودب ورأته امرأتُهُ على هذه الصورة المعيبة فذُهِلتْ واحتجتْ كأنَّما تحتقره ولكنَّه أبَان لها أيِّ بيان! المُقَنَّع والديون وبمناسبة ذكر البيت السابق، فإن المقنع الكندي كان كريماً متلافاً حتى إن كرمه الشديد أركبه الديون، فلامه قومه على الدَّين، فقال قصيدته المشهورة: يُعَاتِبُي في الدّين قومي وإنما ديوني في أشياءَ تُكْسًبُهم حَمْدا أسُدُّ بِهِ ما قد أخلُّوا وضيَّعُوا ثُغُوّر حقوق ما أطاقوا لها سَدَّا وفي جَفْنَةٍ ما يُغّلَقُ البابُ دونَها مكللةً لحماَ مُدَفَّقَةً ثَرْدَا وفي فرسٍ نَهْدٍ عتيقٍ جعلتُهُ حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبدا وأنَّ الذي بيني وبين بني أبي وبينَ بني عمي لمختلِفٌ جِدَّا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ما أجمل هذه المعاني لولا أن الشاعر عرض بهجاء قومه بل صرح في البيت الثاني! والشعر يصرح بما في القلب!.. والشعر كالنار يحرق بخور الوجدان!.. وقد يكون معذوراً في ذلك إذا كان قومه في عتابهم له على الديون قد تمادوا إلى الاستهزاء والشماتة وقالوا ساخرين هذا ما آل إليه امرك وادعاؤك الكرم!.. أصبحت مفلساً مديناً.. لا ندري ماذا قالوا بالضبط، ولكن الشاعر هجاهم قطعاً حين قال: أسُدُّ به ما قد أخلوا وضيعوا ثُغورَ حقوقٍ ما أطاقوا لها سَدَّا.. إن كان لومهم له حرصاً عليه فقد أخطأ خطأً واضحاً في هذا الهجاء.. ولا ينفع تلافيه بما قال بعده.. فما هو إلا فخر بنفسه.. وإن كانوا قد جهلوا عليه وسخروا منه فهو معذور، قال قيس بن زهير: أظنُّ الحكم دَلَّ عليَّ قومي وقد يُسّتَجهل الرجلٌ الحليمُ فإن الكريم إذا أُحرج وأُزعج يخرج من طوره وينسى طبعه. وقول العربي: إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً عليَّ لئامها وقول المقنع: وفي جفنة: هي الصحن الكبير الذي يقدم فيه الطعام للضيوف. الفزعة والشهامة ومن مزايا العربي الحر الفزعة والشهامة، لا يرضى وجدانه أن يترك رفيقه، بل هو يقول له: "نادني في الليلة الظلماء" وهي من المأثور.. يقول عوَّاض بن بخيت الثبيتي: وليَّا دعاني رفيقي تالي الليل لبَّيتْ ويا ما قطعنا الخرايم في الليال المظلمات والخرايم هي الصحراء الهائلة الواسعة كأنما يخرم بعضها على بعض، وهي فصيحة.. من وجدان المتنبي مع أنني أعتقد أن المتنبي لم يحب غير المجد.. فإن بعض المصادر تقول إن أبا الطيب المتنبي كان يحب أخت سيف الدولة واسمها (خولة) وقد توفيت ببلدة (ميا فارقين) شمال حلب عام 352 والمتنبي بعيد في الكوفة، وسرى له الخبر السيئ، والاخبار السيئة لها أجنحة.. فاهتز من أعماقه وسال وجدانه بأبيات منها قوله: طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذِبِ حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقة أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي تعثرت به في الأفواه ألسنها والبرد في الطرق والأقلام في الكتب كأن (فعلة) لم تملأ مواكبها ديار بكر ولم تخلع ولم تهب أرى العراق طويل الليل مذ نعيت فكيف ليل فتى الفتيان في حلب؟ ويقول الشاعر سليمان بن حاذور في أبيات تصور أعماق الوجدان الممطور بالذكريات: «أذكر هل الطايف عسى الطايف السيل عسى السحايب كل يومٍ تعلّه ذكرى الليالي الماضية والتعاليل عليه دمع العين دايم تهله ترى الشقا كل العنا والغرابيل فرقا الحبيب اللي تنكر لخله» وقال عبدالهادي بن روقي: «عديت في مرقب والليل ممسيني بديار عرب لعل السيل ما جاها أضحك مع اللي ضحك والهم طاويني طية شنون الطلب لا سربوا ماها وراك ما تزعجين الدمع يا عيني على هنوف جديد اللبس يزهاها هبت هبوب الشمال وبردها شبين ما تدفي النار لو حنا شعلناها» والقصيدة طويلة ومعبرة وجميلة.. والبيت الثاني يصور حزن الوجدان الصادق وتجلد الكريم.. وقد قالها وهو بعيد عن أرضه وأحبابه خارج الجزيرة في ما كان يسمى (كبد الشمال) فاجتمعت عليه الغربة وفراق الأحبة وصقيع البرد.