ظل الملف الإيراني ومازال، يشكل قلقا كبيرا في المنطقة بتداعياته الخطيرة والمحتملة. الوضع الخليجي والعربي والإقليمي متأثر بتطورات هذا الملف، والوضع الدولي مؤثر فيه والصراع حوله مازال قائما. المشروع الإيراني النووي لا يمكن فصله عن تدخلات إيران الإقليمية. توظف إيران أوراقا ضاغطة لإشغال العالم والمنطقة، وهي تساوم بأوراق الضغط لتضمن حصة معتبرة لقوة إقليمية صاعدة من الأمن إلى النفوذ، ولتضمن سلامة مشروعها النووي حتى إعلان اللحظة الحاسمة. بين ما تبرزه وسائل الإعلام حول تطورات هذا الملف، وبين المعمى مسافات اجتيازها قد يبدو صعبا لأنها محاطة بسرية تامة، ومعلومات متضاربة، ومواقف متباينة، سواء من الجانب الإيراني الذي يقدم مشروعه باعتباره مشروعا نوويا سلميا، أو من جانب القوة الأكبر في العالم الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول مجلس الأمن، أو من ناحية المعلومات التي يصعب التأكد من دقتها عن طبيعة المشروع والمراحل التي قطعها أو حققها حتى اليوم. ولعل من المفيد قبل قراءة المواقف الدولية، وكشف بعض التناقضات في مواقفها تجاه المشروع النووي الإيراني العودة لتاريخ البرنامج النووي الإيراني. الوثائق المنشورة من قبل أرشيف الأمن القومي الأمريكي تذهب إلى أنه في منتصف السبعينيات شجع الأمريكان شاه إيران لإيجاد مصادر طاقة بديلة غير نفطية، واقترحوا إنشاء عدة مفاعلات نووية للحصول على الطاقة الكهربائية التي تم تقدير احتياجاتها المستقبلية آنذاك من قبل مركز بحوث جامعة ستانفورد. لم يرفض شاه إيران العرض الأمريكي، فقد تحمس لبناء عدد من المفاعلات كان من المقرر لها أن تصل إلى 23 مفاعلا. كما منح الشاه لاتحاد (كرافت فيرك) وهي شركة من شركات سيمنز الألمانية عقدا لإنشاء مفاعلين بقدرة 1,200 ميغاوات في بوشهر وحُدد تاريخ البدء بالعمل في هذا المفاعل في عام 1974. وبالاستناد إلى نفس الوثيقة فقد كان من المخطط شراء 8 مفاعلات من الولاياتالمتحدةالأمريكية من قبل حكومة الشاه في العاشر من تموز 1978، أي قبل سبعة أشهر من قيام الثورة الإسلامية في إيران. في عام 1974 بدأت إيران الشاه إنشاء أول قاعدة لمفاعل نووي إيراني في مدينة بوشهر على الساحل الإيراني من الخليج العربي، ووصل العمل إلى درجة متقدمة بلغت 80% من المخطط للتنفيذ في نهاية عقد السبعينيات، إلا أن اضطراب الأحوال الإيرانية خلال قيام الثورة 1978/1979 جمّد المشروع مؤقتًا. وحينما شرعت حكومة الثورة الإيرانية في استئناف المشروع وتجهيزه للعمل كانت أحداث الحرب الإيرانية - العراقية قد عرقلت مساعيها حيث قصفت القوات العراقية المفاعل ست مرات مسببة خسائر فادحة في بنيته الأساسية. تمكنت إيران من استعادة النشاط في إكمال المفاعل في عام 1995 بتوقيع عقد مع الحكومة الروسية قيمته 800 مليون دولار، وعلى أن يلحق بمفاعل بوشهر مفاعلات أخرى في أنحاء متفرقة من البلاد وبالتعاون مع الجانب الروسي أيضا. البرنامج النووي الإيراني ليس من الصعب تبريره اقتصاديا. وبالتالي فإنتاج الوقود النووي من أجل مفاعلات الطاقة النووية مكوّن أساسي في سياسة الطاقة النووية لإيران. أما من الناحية التقنية فلا يمكن اليوم الحكم على البرنامج النووي الإيراني على أنه برنامج سلمي أو عسكري. فأي برنامج نووي يمكن أن ينفتح على كلا الاحتمالين العسكري والسلمي عند تعدي نسبة تخصيب اليورانيوم حاجز ال 70% . ووفق تقديرات الخبراء الأمريكان والبريطانيين فإن إيران ستكون قادرة على إنتاج أول قنبلة نووية إذا استمرت إيران على معدل وتيرة العمل الحالية بعد خمس سنوات قادمة، وهناك تقديرات تذهب لأقل من هذا، ولا توجد تقديرات دقيقة لإحاطة هذا المشروع بسرية تامة، وتظل المسألة في جانب كبير منها تحمل تكهنات واستقراءات أكثر من كونها حقائق نهائية يمكن الوثوق بها. عند الحديث عن المشروع الإيراني النووي وهو الذي يعتمد على نقل التقنية النووية تجدر الإشارة إلى أن هناك مشروعا أوسع عملت عليه إيران خلال العشرين عاما الماضية بتوسع وإصرار لنقل وتطوير التقنية ليس فقط في المجال النووي فحسب، وإنما في مجالات تمثل توجها استراتيجيا لنقل التقنية وتطويرها لخدمة مشروع إيران المدني والعسكري. هناك بضعة مؤشرات تدل على اتساع القاعدة العلمية البحثية والتقنية في إيران، وهي مؤشرات ربما تساعد على فهم طبيعة المشروع الإيراني، وعناوينه ولعل هذا يكشف عن أبعاد صورة مازالت غير واضحة تماما. وتشير مراكز المعلومات العلمية الغربية إلى أن إيران أصبحت قوة علمية صاعدة في منطقة الشرق الأوسط في مجال البحوث العلمية من خلال عدة مؤشرات من بينها النشر العلمي وعدد براءات الاختراع. تقدم هذه المؤشرات إيران في المرتبة الثالثة في مجال أبحاث الغاز والبترول بعد تركيا وإسرائيل ، كما تقدم مؤشرات إيران في مجال بحوث الرياضيات والفيزياء في المرتبة الثالثة بعد إسرائيل وتركيا. وتشير تلك المؤشرات إلى القفزة الكبيرة التي حققتها خلال الأعوام من 2000 - 2007 في هذا المجال. وعلى مستوى آخر تشير المعلومات إلى أن إيران حققت مركزا متقدما في مجال أبحاث تقنية النانو في عام 2007 ، ويعتبر هذا المجال من أكثر المجالات البحثية تطورا، ويعد من التقنيات الواعدة، التي تطال استخداماتها مجالات عدة منها التطبيقات العسكرية والطبية والصناعية. وفي العام الماضي فاجأت العالم بإطلاق المسبار الفضائي "سفير" المخصص لحمل الأقمار الاصطناعية بهدف توسيع وتحسين منظومتها الفضائية. وهذا يمهد الطريق أمامها لإرسال أقمارها الصناعية المتعددة المهام. وستُعد إيران الدولة العاشرة في العالم إذا نجحت في تطوير هذه التقنية. وكانت طهران أعلنت سابقا عن امتلاكها محطة فضائية لإطلاق الصواريخ وأخرى للمراقبة واستلام المعلومات. وهذه كلها مؤشرات على إصرار إيران على تحقيق تقدم تقني وعلمي في مجال صناعة الفضاء وهي تعمل لتوظيفه لخدمة مشروعها المدني والعسكري. وبالعودة إلى المشروع النووي الإيراني فمن المؤكد أنّ سقوط النظام العراقي السابق واحتلال العراق أمريكياً أثّرا بشكل مباشر على رؤية إيران لواقع التحولات في المنطقة. يعيش النظام الإيراني هاجس القلق على مستقبله. المعادلة الإيرانية اليوم قائمة على أولوية حماية نظام وبناء قوة إقليمية ضاربة تجعل الكلفة في مواجهتها صعبة، وتتجاوب مع طموحات إيران منذ أيام الشاه في استعادة دور إقليمي مؤثر في المنطقة. الحلم القومي الإيراني تتعاقب على استلهامه القيادة الإيرانية من نظام الشاه إلى نظام ولاية الفقيه. يأخذ المسار العام للمشروع النووي الإيراني طريقه في اتجاهين، اتجاه مدني سلمي، وآخر يمكن توظيفه للحصول على سلاح نووي. ولذا تحرص إيران على أن تمتلك تقنية كافية لإجراء عمليات التخصيب، وهي تصر على عدم الانصياع لإرادة مجموعة 5+1 لإيقاف التخصيب، لأن تزويدها بوقود نووي جاهز لتشغيل مفاعلاتها النووية سيحرمها من تطوير مستمر لقدراتها على التخصيب، ناهيك أن من متطلبات التزويد تسليم إيران لمعظم ما تملكه من اليورانيوم الجاهز للتخصيب، وهي تدرك أنه بدون الحصول على التقنية بما يكفي لإنتاج الوقود النووي فلن تتمكن من أن تواصل مشروعها للوصول إلى مستويات من تخصيب اليورانيوم تكفي لصناعة السلاح النووي. كان هذا مدخلا ضروريا قبل أن نقرأ في طبيعة الصراع حول هذا المشروع، الذي مازال وسيظل ملفه ساخنا حتى تنكشف الحقائق كاملة.