ما الحديث عن الملف النووي الإيراني، في محصلته، إلا جزء من منظومة لترسانة عسكرية تعدها طهران منذ عهد الشاة محمد رضا بهلوي. منذ ذلك الوقت، وإيران تسلح نفسها بالأسلحة التقليدية والحديثة وصولا إلى تلك النووية. رغم إنكار إيران نيتها في امتلاك قنبلة نووية، وعدم وجود أي توجهات عسكرية من مفاعلاتها النووية. فما نراه الآن من تحركات ونشاطات في تطوير هذه المفاعلات التي يتجاوز عددها 160 مفاعلا نوويا منها ما هو لأغراض بحثية، وأخرى لإنتاج الطاقة الكهربائية لا يتعلق إطلاقا، من ناحية المنطق، بنوايا استخدام سلمية كما تدعي طهران. هذه الهرولة حول تخصيب اليورانيوم، تشي أن إيران لديها هدف واضح ومحدد، وهو إنتاج سلاح نووي ينضم إلى منظومتها العسكرية، بغية ضمان السيطرة الإقليمية. إن قضية تخصيب اليورانيوم، وما تديره طهران بعيدا عن أعين الوكالة الدولية للطاقة الذرية، هو لب الخلاف الدولي معها. وما يثير مخاوف المجتمع الدولي تجاه إيران، هو أنها تسبح في بحيرتين من النفط والغاز. دولة بهذا الحجم من المخزون النفطي، من المنطق، ليست في حاجة إلى مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة. وإن سلمنا جدلا، أن النوايا السلمية التي تدعيها طهران حقيقية، فلماذا لم تبلغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن منشأة (ناتانز) وأنشطة التخصيب فيها التي تم اكتشافها عام 2002، طبقا لمعلومات تلقتها الوكالة من المعارضة الإيرانية؟. هذا، وناهيك عن كثير من الأنشطة التي تدار في الخفاء وفق مبدأ (التقية)، التي من أبرزها، استيرادها اليورانيوم من الصين دون علم الوكالة، كما أن طهران رفضت التعاون مع الوكالة الدولية حول نقاط حساسة، كما ذكرت الوكالة في تقريرها الصادر عام 2007؛ مثل تسليم إيران وثيقة من 15 صفحة تمتلكها طهران وتعتبر بمثابة أسس لصنع القنابل النووية. إن عملية تخصيب اليورانيوم سلاح ذو حدين، إذ يمكن استخدام اليورانيوم المخصب عند درجة نقاء 5 خمسة في المائة للأغراض السلمية، كتوليد الطاقة الكهربائية. أما إذا استمرت عمليات التخصيب حتى الوصول إلى درجة نقاء من 80 إلى 90 في المائة، فيمكن عندها إنتاج قنبلة نووية. وهذا مازاد القلق الدولي من البرنامج النووي الإيراني، خصوصا بعد إعلان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أخيرا، امتلاك بلاده للجيل الثالث من أجهزة الطرد المركزي الخاصة بتخصيب اليورانيوم، التي تتميز بقدرتها على إنتاج وقود نووي (اليورانيوم المخصب) بنسبة تصل إلى عشرة أضعاف قدرة أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول، وأن إيران تسعى نحو إنتاج يورانيوم مخصب بنسبة 20 في المائة، وأكد في حينه بأن بلاده تمتلك الدورة النووية كاملة، بدءا من مرحلة اكتشاف المنجم حتى مرحلة إنتاج الوقود. هذا التصريح يأتي مؤكدا للشكوك الدولية حيال أهداف طهران لامتلاك أسلحة نووية. ومن البدهي الاستنتاج بأن إيران قادرة على امتلاك قنبلة نووية خلال مدة تقل عن العامين، إذا لم يتم فرض عقوبات من شأنها إعاقة هذا التسابق نحو تخصيب اليورانيوم. بتوخي الدقة، يظل امتلاك الطاقة النووية ليس بالأمر اليسير والسريع، فالوصول إلى هذا الهدف يتحقق بعد مرور سنوات طويلة من الجهد والبحث، لذلك؛ فإن إيران عملت جاهدة بكل ما تملك من طاقات مادية وبشرية، وجندتها لتحقيق طموحها النووي الذي وصل إلى نقطة اللا عودة. الحلم النووي الإيراني قصة لها جذور قديمة، ومرت بتحولات هيكلية معقدة، بالذات بعد العهد الخميني الذي بدأ عام 1979. استحدثت طهران برنامجها النووي بقدرات محدودة بمفاعل أبحاث أمريكي طاقته خمسة ميغاوات في مركز الأبحاث النووية في طهران، حيث وقعت عقدا مع الولاياتالمتحدةالأمريكية مدته عشر سنوات في العام نفسه ينص على تزويد أمريكا لإيران بالوقود النووي ودعم هذا المفاعل، ثم أنشأت مفاعلا بقوة 27 ميغاوات في أصفهان. وشرعت في بناء المحطة النووية في بوشهر عام 1972 التي أثارت مفاعلاتها الجدل في الفترة الأخيرة، من قبل شركة كرافت وورك الألمانية، بيد أنها تخلت عن إكمال المشروع في أعقاب إزاحة الشاه عام 1979، ثم عكفت على بناء مركز للأبحاث النووية في منطقة أمير آباد. في عام 1975 ابتاعت إيران 10 في المائة من أسهم شركة (كونسورتيوم يوروديف) الفرنسية لتخصيب اليورانيوم، ودفعت طهران للشركة نفسها ما يقارب البليون دولار، مقابل بناء محطة نووية، وبالتالي ألغيت الاتفاقية المبرمة معها بعد قيام العهد الخميني، وطالبت باسترجاع المبلغ. أبرم الإتفاق مع (فرام آتون)، وهي شركة فرنسية أيضا، على بناء محطة (دارخوفين)، وانسحبت الشركة من إيران عام 1979بعد أن عملت بالمشروع ما يقارب تسعة أشهر؛ إثر إلغاء العقد الموقع معها أيضا. هذه القرارات من قبل النظام الثوري سببت مشاكل قانونية مع الشركات الفرنسية التي كانت تعمل في المشروعات النووية الإيرانية، واضطرت الشركات المتضررة إلى اللجوء إلى محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في لوزان السويسرية التي حكمت لصالح هذه الشركات ملزمة إيران بدفع كامل المستحقات المالية، كما نص الحكم بعدم أحقيه طهران ببيع نصيبها البالغ 10 في المائة في شركة (كونسورتيوم يوروديف)، وظلت هذه المشكلة منبعا لأزمة طويلة بين الحكومتين الإيرانية والفرنسية. وفي عام 1978 حصلت طهران على أربعة أجهزة تعمل بالليزر لتخصيب اليورانيوم. شهد البرنامج النووي تحولات كثيرة بعد اعتلاء الخميني سدة الحكم، فقد تجاهل النظام البرنامج النووي بصورة شبه كاملة في بادئ الأمر، وتم إلغاء العقود التي أبرمت في حقبة الشاة مع الشركات الأجنبية، ما أدخل طهران في مشاكل قانونية ودبلوماسية مع الدول الأجنبية أصحاب هذه الشركات، وعلى رأسها فرنساوألمانيا التي أوكل إليهما الشاة بناء مفاعل بو شهر. ويعود هذا التجاهل لقناعات فكرية دينية لدى قادة طهران وقتها، فقد صرح آية الله الخميني أن امتلاك الطاقة النووية محرم شرعا، وأن الأسلحة النووية ليست إسلامية، وبأن بلاده ليست في حاجة إليها لوجود ما يكفي من البترول، فتوقف البرنامج النووي الإيراني نحو خمس سنوات. وعاد وشهد منتصف الثمانينيات الاهتمام بالبرنامج النووي، وبدأت إيران في حل القضايا العالقة مع الدول الغربية بعد إلغائها العقود المبرمة مع هذه الدول، واستكمال مشاريعها النووية التي علقتها، وعلى رأسها بناء محطة بوشهر. بدأت طهران في وضع الخطط الاستراتيجية، وتخصيص الميزانيات اللازمة لاستئناف المشروع النووي، ويعزى هذا التغير في الموقف الإيراني تجاه المسألة النووية لسببين: الأول؛ هو الحرب العراقية- الإيرانية التي شكلت تحولا كبيرا في الوعي السياسي الإيراني في ما يتعلق بالأسلحة النووية. والثاني؛ هو مصلحة النظام وحمايته التي تعلو الأحكام الشرعية، وبناء عليه تفسر تلك الأحكام أو حتى تلغى في سبيل مصلحة هذا النظام. أثرت الحرب العراقية- الإيرانية على استكمال إيران لخططها النووية، لا سيما محطة بوشهر محل الخلاف ما بين طهران وشركة (كرافت وورك) الألمانية، وكان هذا الخلاف سببا لتوقف العمل في المحطة سنين طويلة، بعد أن غيرت الثورة موقفها الديني نحو المسألة النووية، وإدراكها أهمية محطة بوشهر النووية. فعملت على محاولة إقناع الشركة الألمانية استئناف العمل مره آخرى. وبعد سلسلة مفاوضات، وافقت الشركة على الرجوع للعمل في محطة بوشهر وربطت ذلك بتوقف الحرب العراقية- الإيرانية. ورغم ذلك الاتفاق بين الطرفين، إلا أن ألمانيا أعلنت رسميا عام 1981 توقفها عن العمل في منشأة بوشهر. وفي عام 1982 توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي قيام الشركة بتسليم جميع المعدات الخاصة بمشروع بوشهر، على أن يدفع الطرفان تكاليف النقل التي قدرت بنحو 15 مليون مارك ألماني. حاولت إيران الشروع في بناء المحطة بجهود وطنية، إلا أن التحديات الفنية المعقدة وقفت عائق في استكمال بناء مفاعل بوشهر بجهود إيرانية ذاتية. وفي عام 1985 قررت طهران وقف استكمال بناء هذه المحطة بسبب المعوقات التي صادفت الفريق الفني، وأيضاً بسبب الغارات الجوية التى شنها العراق لتدمير مفاعل بوشهر، والتي كانت نتيجة للغارات الجوية الإيرانية على المفاعل النووي العراقي عام 1980. وجهت العراق 8 ضربات جوية رئيسة مدمرة لمفاعل بوشهر، وكانت أقواها عام 1987 عندما شنت العراق غارات جوية ألحقت ضراراً جسيماً بمفاعل بوشهر، ما دعا الحكومة الإيرانية طلب مساعدات من الدول الأجنبية لتقييم حجم الضرر الذي لحق بالمنشاة. وقد استجابت فرنسا لهذا الطلب، وقام فريق مكون من 18 مهندساً تابعين لشركة "فرام أتوم " بزيارة المحطة لتفييم الأضرار، وخلصت عملية التقييم إلى أن المحطة متضررة للغاية. أعلنت الحكومة الألمانية عام 1986 بأنها لن تمنح ترخيصاً لشركة "كرافت وورك" لتسليم الجانب الإيراني الكميات المتبقية من المعدات والتي تقدر بنحو 10 المائة لاستكمال بناء المفاعل النووي الأول في بوشهر، إلا بعد انتهاء الحرب بين الطرفين العراقي والإيراني. ورغم تأثير الحرب السلبي على البرنامج النووي الإيراني، إلا أن طهران لم تدع هذه الحرب تقف عائقا في تحقيق طموحها النووي، إذ نشطت الحكومة في إنشاء المراكز العلمية التابعة لمنظمة الطاقة النووية الإيرانية، وذلك من عام 1984 حتى الآن، إضافة إلى استمرار جهودها لإعداد الكوادر البشرية الإيرانية واستقطاب علماء الذرة الإيرانيين المقيمين في الخارج للعودة إلي إيران. ولم تقتصر الجهود الإيرانية على تأهيل الكوادر الوطنية فحسب، بل سعت إلى استقطاب علماء الذرة الأجانب، خصوصا السوفييت، مستغلة حالة التفكك التي كان يعيشها الاتحاد السوفييتي، وحاولت جذب أكبر عدد منهم للعمل في منشآتها النووية، وذكرت أحد التقارير أن طهران نجحت في استقطاب ما يقارب 14 عالما روسيا. بعد أن وضعت الحرب العراقية- الإيرانية أوزارها عام 1989، استأنفت طهران محادثاتها مع اتحاد الشركات الألمانية- الإسبانية- الأرجنتينية، لاستكمال المفاعل النووي في بوشهر، إلا أن الحكومة الألمانية لم تستجب بسبب الضغوطات من الحكومة الأمريكية. هذا الموقف الألماني دعا طهران إلى الإعلان بشكل رسمي إلغاء عقدها بشكل نهائي والبحث عن بديل لها. وصرح وزير المالية الإيراني محمد جواد إيراني بأن طهران سوف تستكمل بناء محطة بوشهر النووية لأنها بذلت فيها الكثير من الجهد والمال، وستستجيب لأي عرض للتعاون النووي من جانب أية دولة في العالم، وأشار إلى أن الاتحاد السوفييتي يمكن أن يمثل بديلا أمام طهران للحصول على التكنولوجيا النووية. في حقيقة الأمر، دعم الاتحاد السوفييتي ومن بعده روسيا البرنامج النووي الإيراني بكل ما يملك من خبرات. وكانت أولى ثمرات هذا التعاون النووي الاتفاقية التي وقعها الجانبان الإيراني والروسي عام 1990 لإنشاء محطتين نوويتين في بوشهر بطاقة 440 ميغاوات. وكانت الصين من أبرز الدول النووية التى وقعت معها إيران اتفاقات تعاون نووي وذلك عام 1984. ولم يقتصر هذا التعاون على تزويد طهران بالمعدات النووية اللازمة لتخصيب اليورانيوم وبناء المفاعلات النووية، بل شمل تدريب الكوادر البشرية. ومع اتساع التعاون النووي بين البلدين، زادت الضغوط الأمريكية على الصين لوقف هذا التعاون. ومع هذه الضغوط، اضطرت وزارة الخارجية الصينية عام 1985 إلى إعلان عدم وجود أية علاقات تعاون نووي بين الطرفين الصيني والإيراني. ومع حلول عام 1991 عادت هذه العلاقات من جديد. وقد سعت إيران خلال عامي 1988-1989 إلى الحصول على المساعدات الباكستانية في عمليات تخصيب اليورانيوم، وقد أثار هذا التعاون حفيظة الإدارة الأمريكية ومارست ضغوطها على باكستان لوقف هذا التعاون النووي، ولم تك الصين وباكستان الدولتان الوحيدتان اللتان تعاونتا مع إيران، بل حاولت طهران التنسيق مع أكبر عدد ممكن من الدول، وفي كل مرة تقف أمريكا وتتربص للمحاولات الإيرانية، وتشكل ضغطا على أية دولة تحاول التعاون النووي مع إيران. بعد كل هذه المحاولات، انتهى المطاف النووي الإيراني للتعاون مع الاتحاد السوفييتي، ومن بعده روسيا. وبدأت المحادثات بين الجانبين منذ عام 1989، ولم ترضخ موسكو للمطالب الأمريكية بوقف هذا التعاون، بل استمر الدعم الروسي للحلم النووي الإيراني إلى الآن، وشل هذا الدعم التحركات الأمريكية لوقف المفاعلات النووية الإيرانية. هناك أسباب عدة دعت المجتمع الدولي للتخوف من البرنامج النووي الإيراني والتشكيك في النوايا السلمية للبرنامج النووي الإيراني التي تدعيها طهران، وتتضمن؛ رفض إيران إعادة مخلفات الوقود النووي الإيراني أخيرا إلى روسيا، التي من الممكن إعادة تخصيبها واستخدامها في تصنيع السلاح النووي. ويأتي معمل تخصيب اليورانيوم في (ناتانز)، الذي كشفت عن وجوده المعارضة الإيرانية. وشكل هذا المعمل قضية حساسة في البرنامج النووي الإيراني، إذ بوسع هذا المعمل إنتاج مادة البلوتينيوم التى تستخدم في تصنيع الأسلحة النووية بشكل مباشر. وهناك سبب أن المعارضة أكدت في وقت سابق أن إيران تقوم ببناء موقع نووي جديد في منطقة أردكان لتحضير أكسيد اليورانيوم، وهو مايسمى ب(الكعكة الصفراء)، التي تحتوي على يورانيوم أكثر نقاء وتركيز. وكان هذا مؤشرا على امتلاك طهران لتكنولوجيا دورة الوقود النووي كاملة، من مرحلة استخراج اليورانيوم إلى إنتاج المواد المستخدمة لتصنيع الأسلحة النووية. وهذا بالفعل ما صرح به الرئيس محمود أحمدي نجاد لاحقا بامتلاك إيران لدورة الوقود كاملة. والسبب الأخير يتلخص في أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تزل تنتظر إيضاحات من إيران حول مسائل عدة تقنية تتعلق ببرنامجها النووي، من أهمها استمرار العمل في منشأة أراك للمياه الثقيلة، التي طالبت الوكالة وقف العمل فيها. وهذا النوع من المفاعلات يمكن استخدامة لإنتاج السلاح النووي. لم تلتزم إيران بالرد على أسئلة الوكالة المتعلقة بوجود آثار من اليورانيوم على العينات التي عثر عليها المفتشون الدوليون في مخزن للنفايات النووية في مدينة كرج. مستخلص هذا الاستعراض الموجز للتاريخ النووي الإيراني، والتحديات التي واجهتها طهران للمضي في تحقيق حلمها النووي، يمكن الجزم، وبشكل قاطع، بأن طهران لن تتخلى عن برنامجها النووي مهما كان الثمن، ومن الواضح بأن نظام إيران يخفي الكثير حول نوايا هذا البرنامج الذي وصلت فيه إلى نقطة اللاعودة. * جامعة مانشستر مرحلة الدكتوراه في قسم الهندسة الكيميائية