كانت القصيدة جيدة البناء من الشعر الشعبي تسبق الركبان إلى المجتمعات البعيدة عن موطن ابداعها, وكانت المجالس تعمر بهذه القصائد, وما ذاك إلا لأن الشعر كان من أهم موارد الثقافة, وما زال الشعر الشعبي مصدراً من مصادر المعرفة ضالة المثقف والباحث. ولما كانت اللهجة المحلية وتقاليد التعبير تمتلك نواصي الشعر الشعبي فإن ذلك يمثل عائقاً أمام الباحث غير المزود بأدوات البحث المناسبة, فالمفردات وما يوشيها من أساليب تحجب فهم هذا الشعر ما لم يكن الباحث ملماً إلماماً واسعاً بمحيط هذا الشعر وأعماقه, ولقد نادى كثير من الكتاب بحل معضلة كتابة القصيدة الشعبية حتى تقترب من ذائقة القارئ العربي أينما وجد, وكان من الاعتراضات: أن هذا الشعر من الأدب الشفهي الذي يكتب كما جاء على لسان مبدعه. والواقع أن متعة الآداب الشعبية تلقيها بلسان مجتمعها, ونحن مع هذا القول, إلا أن كثيراً من مبدعي الشعر الشعبي أميون, ولو كانوا من المتعلمين لكتبوها كما يفهمون لا كما ينطقون, وقد أصبحت المسؤولية تقع على كتاب هذا الأدب الذين لا يدركون كثيراً من فنونه وابداعاته, وقد يسيئون بسوء الكتابة إلى هذا الإبداع, فما الذي يمنع من تقديم هذا الفن كما يفهمه مبدعوه؟ بين يدي اليوم كتاب : «الماجدي ابن ظاهر حياته وشعره » صدر عام 1984م عن لجنة التراث والتاريخ في دولة الإمارات العربية, وطبع على نفقة سمو الشيخ محمد بن راشد المكتوم, وقد حققه الباحثان حمد أبو شهاب وإبراهيم أبو ملحة. لقد استمتعت بالشعر رغم ما واجهني من ارتباك وتساؤل ناتج عن عدم بعض جوانب فهم اللهجة التي كتبت بها بعض المفردات والتي زاد من إيغالها في اللغزية منهج المحققين الذي لم يلتزم توحيداً لكتابة بعض الكلمات أو تفسيراً لذلك, ولعلي أختار اليوم ما يتصل بحرفي الجيم والقاف. فمن اللهجات المعروفة نطق الجيم ياء مثل رجل: ريل, والحج: الحي. ونطق القاف جيما مثل: قدام, جدام, تقادي: تجادي. ولم يلتفت المحققان إلى التوضيح في بداية الكتاب لما قد يلتبس فيه الفهم لمن ليسوا من أهل لهجة هذا الشعر, بل إنه من أسس التحقيق إبانة مثل هذه الأمور في فصل أو مقدمة, وقد نلتمس العذر للمحققين كون هذا الإصدار من بواكير العمل التوثيقي لتراث البلاد, وأن الاجتهاد كان أساساً في هذا العمل. وقد زاد من الإرباك أن مسألة الجيم لم تثبت على حال واحدة, فمرة تجى جيما ومرة ياء حتى بدا جواز ذلك, وقد يدركه ابن الإمارات وعمان ولكن ما هو موقف باحث في الجزائر أو المغرب – مثلاً – من هذا؟ إن مسؤولية المحقق جسيمة لتوضيح مثل ذلك, فكيف به إذا أحدث لبساً جديداً؟ لقد جاءت الجيم في كلمة الجنوب مرة بالياء في قول ابن ماجد ص11: من افوي الينوب إلى الشمال من الظفره إلى سيفة إدهاني ويعني: من فجوج الجنوب إلى الشمال من الظفرة إلى سيفة دهانِ وفسر المحققان (افيوي): جمع فيء ويعني بها جميع الرمال الخ, مع أنها تعني الفجاج الواقعة بين الجبال أو الكثبان التي تحدد بها المسالك "من كل فج عميق". ثم تأتي كلمة الجنوب في قصيدة ابنة الماجدي ص25: إلين احضروا حضار كلبا وها يفوا هل الجو عنى قاصدين جنوبها وقد وردت الجيم في مفردات الكتاب على حالات ثلاث: (1) ج, في الجو والجنوب, جاني وغيرها. (2) ياء: فيوي, الينوب, اليلح وغيرها. (3) چ, چيم مثلتة, مثل: چيف, چيد, چد, چني. أما قلب القاف جيما في : صديق, ثقيل, تقادى, القدا, مثل صديج, ثجيل, تجادى, الجدى. وكان المنتظر إيضاح هذه الأحوال لاسيما وأنها وردت مقلوبة هذه الأحرف وغير مقلوبة. ولعل طبعة أخرى من الكتاب صدرت لم أطلع عليها, تم فيها تفادي الملاحظات التي أشرت إليها, حيث تطورت أعمال الاهتمام بالتراث, وازدات تمويلا وتنوعاً, وأخذت منحى علميا على أيدي متخصصين, وكان من نتائج ذلك نمو ثقافي وإعلامي واسع, دخلت الإمارات به عالم الشهرة, وكان مردوده على الوطن كبيراً. ولما كان الدافع لكتابة هذه المقالة هو البحث عن طريقة جديدة لكتابة الشعر الشعبي تحرره من المحلية وتيسر فهمه للقارئ العربي أينما كان, وقد اخترت قصيدة من عيون الشعر الشعبي في الخليج لشاعرة قال المحققان أنه لا يُعرَف لها سوى هذه القصيدة اليتيمة, والتي تعبر عن تجربة غزيرة في الشعر, وذات رؤية اجتماعية ثاقبة, بما احتوت عليه من حكم وآراء لم تكن إلا لمبدعين في الشعر والفكر, وأختارها أيضاً لندرة مطولات الشعر للشاعرات وطرق هذا المجال من الشعر الذي قل طارقوه, لما يشتمل عليه من مقولات في الحكمة. وفيما يلي نطرح بعض من قصيدة الشاعرة والتي بلغت سبعة وعشرين بيتاً والتعليق على بعض أجزائها: تقول فتاة الحي بنت ابن ظاهر الامثال ما كل الفهامى هذوا بها إلى سفت الشعراء خوصا مضاعف تنقيت من خوص الخوافي قلوبها ناس تجادى والجدى من عيونها وناس تجادى والجدى من قلوبها واللي ما يداري في الخطا ماشياته شكا العوق من الأقدام والاّ كعوبها واللي ما يداوى وآغف العين صابها غدا با يداويها سعى في طبوبها حتى قالت يعدلون الاشياء لا جل مقضاة حاجة ساروا وخلوا كلمة, ما وفوا بها والاجواد تلقى دون الاشباه مسلك والانذال تاطاها وتقضى طروبها وان كان ما تدري لسنك متى مضى فما قدم منها بيّن في شيوبها حتى قالت أبكى على عصر الصبا يوم فاتني بعين هميلة ما يونّى سكوبها قضيت الصبا لا من تثني ولا رضا بثار ولا وافى مثاني صبوبها خذوا ما بقي منى وخلوا مزاهدى معيفين مني والغوالي غدوا بها ساروا وخلونى مقيمة بدارهم الاخيار منهم عوضونى صلو بها خذوا مني عين وضرس وسامع وسمر المباني جشعوا لي طنوبها الى ان احضروا حضار كلبا وهايفوا هل الجو عني قاصدين جنوبها تستهل الشاعرة قصيدتها باعتزازها بانوثتها وتميزها بين سائر نساء الحي, ثم تنهج نهج والدها في ذكر نسبه, ثم الاعتداد بفهمها الذي تشير إلى أن الفهام لم يتطرقوا إلى كل المعاني. التي تختار أنقاها وأميزها كما تختار الحاذقة من خوص النخل سعف جريد القلب الأصفى بياضا, الأرق نعومة في الصنعية والنوعية في المصنوع, بينما يختار الشعراء الآخرون من المعاني أقربها وأسهلها إليهم. ثم تمضي سريعا إلى موضوع القصيدة, فتصف الناس في عصرها بأن منهم من يقتدى ببصره, وهذا ليس كمن يقتدي ببصيرته, وباللهجة الشائعة: ناس تقادى والقدى من عيونها وناس تقادى والقدى من قلوبها وفي البيت الذي يليه تدعو إلى أن يحسب المرء خطاه وأن يأخذ الأمور بالحكمة وحسن التدبير وإلا تعرض لما لا يسره, وباللهجة الشائعة: واللي ما يدارى في الخطا ماشياته شكا العوق من الأقدام والاّ كعوبها وتمضي في رؤاها: «جا يكحلها عماها». ثم تبين فضيلة التسامح ونقيصه الشح, وفضيلة الرفق وسوء حل المشكلات في ساعة الغضب أو الجهل, في الإشارة إلى نزع العوالق الشوكية من الملابس في ظاهر المعنى, وما يتعرض له الإنسان من منغصات الحياة وكيف ينبغي له أن يتعامل معها, مع أنني أعتقد أن كلمة "قمصان" حلت محل "ثوب": وإلى قبض عود الشكل ثوب عاقل لقد أوجزت في النصح معتمدة شمولية الايجاز لكثير مما قد يقال, فتنتقل إلى النصح بأسلوب غير مباشر, بخلع ظروف الحياة على تجربتها التي توارت بصباها كالسفينة التي طواها الابحار وراء الامواج والأفق. ممثلة حياة الإنسان كالسفينة العتيقة التي تكثر عيوبها, وتصعب معالجة أدوائها. وكأنما تتحدث عن أجزاء الجسد التي كلت عن حمله, مهما دفعها يجدها عاجزة عن تنفيذ الأوامر وكل منها لا يهتم إلا بمصلحته الذاتية. وتؤنب الشاعرة نفسها ألا تستفيد من مراحل العمر ليخدم بعضها بعضا. ثم تعود إلى أسلوبها الأول في مباشرة النصح, فتقارن بين الكرام والانذال فالكرام يميزون فيختارون من الأصدقاء من حسنت أخلاقه, ثم تذكر بأن ظهور الشيب أكبر وازع للإنسان فتقول: وإن كان ما تدري لسنك متى مضى فما قدم منها بيّنٍ في شيوبها وتستمر في نصحها وطرح تجربتها مع الحياة بما لا يخفى على ذهن القارئ, فقد أخذت منها الحياة زهرة شبابها, وأصبحت وحيدة حتى أطناب خدرها قشعت: خذوا مني عينٍ وضرسٍ وسامع وسمر المباني فشعوا لى طنوبها إنها الحياة تمضي في سيرها حثيثة لا تلتفت لمن لا يسير في ركابها, ولا تنتظر من ينقطع به الطريق لعجز عن مجاراتها, ولا يبقى مع الإنسان غير ما يؤهله لاستقبال الحياة الأخرى, وقل من يفكر حين اقتراب موته في مآله وعجزه. ان ابنة الماجدي جدير بنا أن نبحث عن شعرها فما ورد في هذه القصيدة دليل على رجاحة عقلها وموهبتها الشعرية. فهل نجد من أحفادها من يصلنا بحياتها ويطلعنا على تجربتها, فليس بيننا وبينها ما يعجز الباحث عن الوصول إليه, وقد أوردت القصيدة كاملة للاستمتاع وللدلالة على مشاركة المرأة الرجل الشاعر فيما يبدع من فكر.