من العجائب التي نجدها في الموظفين لدينا أن بعضهم كلما ارتقى في السلّم الوظيفي صار أكثر كسلاً وأدعى للتهاون في العمل، وزادت حدّة الشكوى والتبرّم لديه، وربما يصل به الأمر في بعض الحالات لأنْ يصبح مدعاة للتنفير من العمل لمن حوله وخاصة من جيل الشباب ممن لايزالون في بداية حياتهم الوظيفية. وهناك نماذج رائعة لموظفين قدماء تفانوا في عملهم، ولايزالون يعملون بإخلاص، ولكن هذه النماذج قلة تصل إلى حد الندرة. ولهذا السبب تجدنا نفرح بهم ونبجلهم لأننا نحتفي بالجدّ ونفخر بالعطاء المثمر. ولشدة لهفتنا لأمثالهم لا نجد بُدًا من إرسال الأماني بأن نجد أمثلة لهم في كل موقع نذهب إليه. والملاحظ أن بعض الموظفين حينما يتقدّمون في الدرجات الوظيفية ويصلون درجة معينة يشعرون بأنهم بلغوا قمة المجد وأنهم قادرون على فهم الوظيفة واستيعاب مشكلاتها وإدارة الأزمات، بل وحل معضلات العالم. ومن الطريف أن الواحد منهم يفتخر -أول مايفتخر به- بعدد سنوات خبرته الطويلة في مجال معين، ويصاب بالزهو وهو يستعرض تاريخه، ثم يخبو توهّجه تدريجيًا حينما يبين كيف أنه أفنى زهرة شبابه في هذا العمل الشاق والدقيق. ولكن، حينما تتفحّص عمله الفعلي ستجد أنه ضعيف ولا يرقى للمستوى البسيط، فكيف بمن أمضى سنوات طويلة فيه! والواقع، أن عدد سنوات الخبرة عند هؤلاء هو بمثابة تكرار للسنة الأولى مع ضعف تدريجي في كل سنة، وكأنّ السنوات التالية مثل أوراق الكربون الذي يضعف حبرها كلما زادت الأوراق وابتعدت عن الأصل حتى لا تكاد تقرأ الصفحة الأخيرة من ورق الكربون. ولو تأملنا حال هذا الموظف، لوجدناه يستنكف الدخول في دورات لتطوير قدراته إلا إذا كانت تلك الدورات مربوطة بالترقية، وحينما يحضر فإنه يحضر للحضور ذاته لا للتعلّم؛ ولو تأملنا سيرة الواحد منهم لوجدنا أنه نادرًا ما يحضر الندوات والمؤتمرات التي لها علاقة باهتمامه، وكأنه بلغ درجة عالية من الكمال الذي لايحتاج معه إلى مزيد. ويرتبط بهذا الصنف من الموظفين، صنف آخر لايعمل إلا بالمتابعة الدقيقة التي تصل إلى حد توجيه اللوم له. وبعضهم يجعل رئيسه يلجأ إلى مخاطبته بلهجة قوية تصل إلى التقريع لدفعه عنوة للعمل. ومع أن بعض الموظفين يجلس على مكتبه وليس ثمة عمل يشغله عن تنفيذ المهمة الموكلة إليه، إلا أنه يجد أنه من الطبيعي أن يُؤجّل تنفيذ العمل، لدرجة أنك تظن أن التأجيل جزء من سياسة العمل التي لايجب أن يحيد عنها. وحينما نراقب الوقت الذي يقضيه الموظفون في تزجية الفراغ ماداموا لايعملون عملهم، سنجد أن البعض يقضيه في المكالمات الهاتفية، وهناك من تُغريه مواقع الإنترنت فيُمضي وقته في تصفّحها، وثمة من ينشغل بألعاب الكمبيوتر، وبعضهم يروق له سماع الأحاديث والإشاعات من زملائه؛ وهكذا يمضي الوقت في هدر لاطائل وراءه. والمؤسف أن هذا الصنف من الموظفين لايشعر بالخطأ ولا يدبّ إليه تأنيب ضمير بسبب هذا التقصير الذي يسبّبه في تعطيل المعاملات وربما إضاعتها وعدم المبالاة بأوقات الناس وحاجاتهم. ولو أردنا التعرف على طرف من هذا الخلل، بالنظر في وضع هذا الموظف، لوجدنا أنه -في الحقيقة- يعيش داخل دائرة مغلقة لايرى ما بداخلها جيدًا. وقد تحدثت مع أحد الموظفين القدامى، وكان في البداية لايجد في التأجيل تقاعسًا، وبعد النقاش معه راح يُبرّر تقاعسه بأن هذا هو المطلوب لكي لايشعر بالظلم حينما يجتهد وغيره ينام ثم يتساويان في المكافأة والترقية وغيرهما. وهذا الوضع السلبي للموظفين يكاد يكون متفشيًا في الدوائر الحكومية، ويقل في الشركات والمؤسسات الأهلية، والسبب يعود إلى أن نظام المتابعة والتقويم المتبع في الدوائر الحكومية قديم ولا يحقق الجودة المطلوبة؛ وقد آن الأوان للنظر في تعديله وتطويره. وربما تأتي المبادرة من الجامعات في تحسين أداء الموظفين ومتابعتهم وتطوير أدائهم وحل مشكلاتهم، وإعطاء أي شكوى أو مقترح أولوية وإخبار الشخص المعني بالشكوى أو الاقتراح واطلاعه على الإجراء الذي اتُّخذ. وبقدر ما يوجد نظام للحوافز والمكافآت التشجيعية للموظفين المتميزين، فلابد أن توجد عقوبات متدرجة وحاسمة. وما أعرفه جزئيًا أن جامعة الملك سعود تخطو الآن خطوات مدروسة نحو تعزيز دور الموظف باعتباره عنصرًا فعّالا في العمل؛ فوضعت لهم برامج إرشادية وصممّت لهم دورات تدريبية، وصارت تتيح للمتميزين الابتعاث والحصول على الحوافز، وتتابع المقصّرين للنظر في أوجه القصور وإمكانية تلافيها بتغيير طبيعة العمل أو تغيير الجهة أو تعديل المسؤولية في سبيل استثمار كل العناصر البشرية القادرة على العطاء. إن النهضة الحضارية التي تشهدها بلادنا اليوم في كافة الميادين جديرة بأن يواكبها تطوير لأداء الموظفين ورفع من كفاءة الجهات الحكومية. ويتطلب ذلك تحويل مفهوم الوظيفة القديم من كونها لمجرد كسب القوت لكي تصبح وسيلة بناء وتطوير للذات وللعمل وللمجتمع.