عند صرف النقود يكثر «أبو يوسف» من القيام والقعود.. وحك الصدغ والأنف وكل شيء قابل للحك.. ثم يغمض عينيه ويقطب ما بين حاجبيه ويقول: خمسون ريالاً دفعة واحدة..!! ما هذا الإسراف..؟ لماذا الصرف والتبذير..؟ الله جل جلاله قد أمر بالاقتصاد فقال: «ولا تبذر تبذيراً» ثم نظر إلى الخمسين وهي تضطرب في كفه المرتعشة وقال: خمسون إن خروجها من كفي يقطع أصابعي الخمسة.! هذه الخمسون هي لبنة في حصن التوفير.. فخمسون على خمسين تبني حائطاً من المال.! أتدرون ما الخمسون.؟ إنها تؤمن أكثر من مئتي رغيف حتى ولو طال بها القدم، فهي في كل الأحوال أرغفة.. والقدم لا يغير شيئاً من فائدتها.. وخمسون رغيفاً تكفي الأطفال لمدة عشرة أيام.. ما أجمل الخبز بالشاي..؟ هذا هو الغداء الحقيقي، لا دهون ولا كريستول، ولا شيء يسبب وجعاً في المعدة، أو عسراً في الهضم. ثم أنه يشبع البطن ويملؤه.. وبالذات كلما كان الرغيف قديماً وبائتاً.. إنها نعمة لا يدركها إلا المقتصدون أمثالي!! ومع هذا يقولون إن أمر الخمسين سهل وشأنها يسير..!! مع أنها تقوم مقام الذبيحة..!! قاتل الله ذبح الذبائح فهذا هو التبذير العظيم، تعزم ضيفاً واحداً وتذبح ذبيحتين لا يأكلهما أحد.. كما يفعل بعض المبذرين الأنانيين.. غير أن الأمر يختلف يا سادتي إذا كان الداعي كريماً، والكرم هنا حينما يكون طبعاً أو صفة ملازمة فإنه ليس عيباً، ولا تناقض بين الكريم وبين المقتصدُ، فكل واحد منهما يكمل الآخر.. فالتبذير دائماً علاجه الاقتصاد في الجانب المقابل.. هذا إذا كان الكرم كما قلت سجية،. والسجية تصبح عادة كالصفة الجسدية لا يمكن تغييرها، أو تبديلها، ومن ثم فإن علينا أن نقبلها، وأن نرحب بها ونستفيد منها. لذا فمتى كان المرء كريماً ودعا أصدقاءه وأقاربه.. - ليس الجميع كلهم بالطبع -..!! بل المهمين منهم أمثالنا، وجئنا مصطحبين العائلة الكريمة ذكوراً وإناثاً مع أم الأولاد، ثم حللنا بساحة المولم وشربنا وأكلنا ثم خرجنا ثم عندما نمرح في الدار ونستخدم كل شيء فيها، بحرية وانطلاِق، فهذا هو والله الكريم وهو والله نعم الذابح ونعمت الذبيحة، ونعم الضيف، ونعم المضيف.. أما إذا كان المضيف أنانياً لا يدعو إلا الخاصة جداً.. والضيف من أولئك الثقلاء المتكبرين الذين لا يرتاحون لكثرة الآكلين حولهم، فإن المسألة هنا تختلف فهذا هو التبذير والإسراف بعينه.. فأين ستذهب كل هذه المائدة..؟ أترمى في الزبالة والعياذ بالله..؟! مأدبة كاملة امتدت إليها بعض الأصابع فقط ثم يلقى بها هكذا في مجمع النفاية!! هذا والله جرم، وإسراف وتبذير.. بينما المكان اللائق بها هو بطون الأولاد. ولهذا أيها الأحباب إذا دعيتم للمآدب وبالذات الأعراس، فعجلوا باللباس، واقتحموا جموع الناس، وإذا وضعت المائدة فمدوا الأيدي وأضربوا بالأخماس، حتى توجعوا الأضراس..!! فإذا قضيتم وطركم فادعوا الله أن يكثر من المولمين الداعين.. فهؤلاء حسناتهم كبيرة وأجرهم على الله.. والله لا يضيع أجر المحسنين. فمن حسناتهم توفير الخمسين مثلاً أو تأجيل إخراجها لمدة خمسة أيام أو تزيد..!! ثم أخذته نوبة من الزحير والزفير فتذكر أن الخمسين لا بد لها أن تخرج، فتصبب عرقاً وأخذته حالة من حالات الوجوم الشديد، حتى ليخيل إليك من شدة صمته، أنه مصاب بالبكم والصمم.. ثم إنه فكر ودبر.. وضرب يداً بيد وخرج من صمته وهو يشتم الأطباء.. أما شتم الأطباء لديه فتلك حكاية أخرى. فهو يرى أنهم دجالون وكذابون، وأفاقون، وأنهم هم سبب البلاء، والمرض!! بل يؤكد على أنهم يساعدون على انتشاره بين الناس لكي يستغلوا جيوبهم وليضعفوا قلوبهم بالشك والخوف والقلق.. فيركضون إليهم دافعين لهم أثمن ما يملكون.. ويعتقد أن الأطباء لو كانوا صادقين مخلصين، لفعلوا وابتكروا أشياء تنفع الناس.. وتداوي أمراضهم، ومن بين هذه الأمراض مرض الجوع.. نعم فالجوع هو أشد الأمراض فتكاً. ألم تروا إلى الأعداد الهائلة من الموتى جوعاً في أفريقيا ومجاهل آسيا..؟! فلماذا لا يفكر الأطباء في دواء يعالج الجوع.. نعم لماذا لا يفكرون في علاج يستخرج من الشجر، أو الحجر، أو التراب، على شكل حبوب يأخذها الجائع فلا يشعر بألم الجوع، ولا بالتعب والإرهاق لأيام بل لأشهر..؟! فهذا والله هو الإنجاز البشري الحقيقي.. وليست الانجازات الطبية الكاذبة التي يعلن عنها في الصحف من أجل التهريج والترويج والكذب..!! نعم الأطباء لو كانوا عباقرة لاخترعوا شيئاً يجعل الأكل في البطن يستمر ويبقى طويلاً وعملوا على تعطيل حركة اللوك، والبلع، والمضغ ومن ثم تتوفر الريالات و الخمسينات..!! اقترب وقت الدفع فوضع الخمسين في كفه وراح يفركها ويضغطها بين أصابعه وهو يشعر أن قلبه يتمزق حسرة لفراقها البائن والذي لا رجعة فيه. ثم اعتادته نوبة القيام، والقعود، والهيام، والشرود.. والتي تعتاده دوماً عند مجرد التفكير في دفع النقود.