لقد تفضل الله - سبحانه وتعالى - على هذه الأمة بالتعاضد والتكاتف مع بعضها البعض في حال وقوع الكوارث والمصائب على الفرد منهم أو الجماعة، فعندما يصاب المسلم بفقد عزيز لديه من والدين أو زوج أو أبناء أو أخ.. الخ، فإن الكل يواسيه بمصابه، فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم بالوقوف بجوار المصاب في تغسيل وتكفين والصلاة على الميت، ومن ثم اتباع جنازته إلى قبره، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على إطعام أهل الميت في أيام مصابهم، حيث شغلتهم المصيبة عن إعداد الطعام. لكن كيف حالنا في هذا الزمان مع هذا التوجيه النبوي الكريم؟؟ لقد بالغ الكثير من الناس في تطبيق هذه السنة النبوية أشد المبالغة، بل وصل الأمر إلى الإسراف والتبذير، بل والتباهي والتفاخر بين المطعمين الطعام لأهل الميت، حتى إن كل واحد منهم يريد أن يكون هو المتميز عن الآخر في كثرة وتنوع مائدته، وهذا لم يكن هو المقصد النبوي الشريف من الحث على إطعام أهل الميت. إننا نلحظ في مجالس التعازي في هذا الزمان الشيء العجاب، نرى الإسراف في الطعام والشراب والفرش، والقيل والقال بما لا فائدة منه! وكأن أهل الميت في فرح وليس ترحا وحزنا. والسؤال الذي يطرح نفسه وهو الهدف من هذا المقال، كم تصرف من أموال في أيام التعازي؟ إن الأرقام التي توصلت إليها مذهلة جداً!! تقول الاحصائيات: إن عدد الموتى الذين تم الصلاة عليهم في مساجد الرياض فقط خلال العام المنصرف 1432ه أكثر من 12600 جنازة - غفر الله لهم وأسكنهم فسيح جناته - وإذا علمنا أن مدة العزاء ثلاثة أيام، فإن أيام التعازي خلال العام الماضي نحو 37800 يوم، وإذا علمنا أيضاً أن المحبين والمقربين لأهل الميت يتسابقون على إطعام أهل الميت وجبتين رئيسيتين خلال الثلاثة أيام العزاء غداء وعشاء، فهذا يعني أنه تم إعداد 75600 وجبة، وهذه الوجبة تشمل ذبيحة كاملة - والغالب تكون ذبيحتين وأكثر - إضافة إلى الفاكهة وخلافه، وإذا علمنا أن متوسط قيمة إعداد وجبة كاملة (ونقدرها بذبيحة وليست ذبيحتين تجاوزاً) مبلغ ألفي ريال كأقل تقدير، فمعنى ذلك أننا قد دفعنا خلال العام المنصرف أكثر من 151.2 مليون ريال (مائة وواحد وخمسين مليوناً ومائتي ألف ريال) كأقل تقدير!! بمعدل 420 ألف ريال يومياً!! وبالمقابل هل تؤكل كل هذه الأطعمة؟؟ أليس هذا إسرافاً وتبذيراً؟؟ نعم نسمع أن هناك جمعيات خيرية تتلقى فائض الطعام، ولكن ليس بهذا الإسراف والتبذير بأن يصرف يومياً 420 ألف ريال لوجبات العزاء في مدينة الرياض وحدها، وقس على ذلك باقي مدن ومحافظات المملكة، والتي قد تتجاوز المليون ريال يومياً. أيها العقلاء، أيها الحكماء، أليس هناك قرار رشيد يوقف هذا الهدر والنزيف الهائل في الأموال ومن مدخرات البلد؟؟ أليس الله سبحانه وتعالى قد وصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين؟ أليس في بلدنا من الأسر والأرامل والأيتام والمعسرين من هو بأمس الحاجة لمثل هذه المبالغ المهدرة بحجة أنني لن أكون أقل من غيري في تقديم الطعام أيام العزاء. ما هو العلاج لهذه الطامة الكبرى؟ وقبل أن أذكر العلاج، أود التنوية بأن إقامة العزاء فيه خلاف بين العلماء، حيث اشتهر عن الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله -أنه لا يرى فتح العزاء بهذه الطريقة، ويقول إن العزاء يكون في السوق أو المسجد أو المحل، إذ حيثما وجدت المصاب عزّيته في مصابه. لذا أرى والله أعلم أن أفضل علاج لهذه الظاهرة أن يفتح باب العزاء للثلاثة أيام من بعد صلاة العصر وحتى صلاة العشاء فقط (يراعى فصل الشتاء لقصر النهار بأن يكون بعد صلاة العشاء بساعة فقط) ثم يتم إغلاق الباب بعد ذلك الوقت، ومن لم يتمكن من الحضور للعزاء في ذلك الوقت، فوسائل الاتصال كثيرة ومتاحة لتقديم واجب العزاء لذوي الميت. وأضف إلى ذلك أن الناس في هذا الوقت - ولله الحمد والمنة - ليسوا جوعى حتى يأتوا إلى العزاء من أجل تناول الطعام، فالناس ولله الحمد في خير ويسر في هذا الزمان والتي نسأل الله تعالى أن يديمها من نعمة علينا وعلى المسلمين أجمعين، وألا يزيلها عنا بسبب مثل هذا الإسراف. قد يرى البعض صعوبة في تطبيق مثل هذا الأسلوب بحجة العادة والتقاليد التي اعتاد عليها المجتمع، إذاً كيف يمكن تطبيق هذا العلاج؟ التطبيق يبدأ من القدوة، فالأمل بأن يقوم ولاة الأمر والعلماء والدعاة والخطباء وأعضاء مجالس الشورى والبلديات وأهل الوجاهة بحث الناس على الالتزام بهذا الإجراء وتطبيق ذلك علناً من خلال الإعلان في الصحف وغيرها بأن العزاء فقط من بعد صلاة العصر إلى أذان العشاء، فإن الناس في الغالب يقتدون بهم، ويجارونهم في ذلك، يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، نكون قد أغلقنا بابا من أبواب الإسراف والتبذير، وقد أحسنت صنعاً إحدى الأسر الخيرة في الأسبوع الماضي عندما فقدوا والدتهم غفر الله لها، بأن تضمن إعلان الوفاة بأن وقت العزاء سيكون من بعد صلاة العصر وحتى الساعة التاسعة مساء. ختاماً،أرجو من الجميع وخاصة أصحاب الرأي والمشورة، الإدلاء برأيهم حول هذه القضية المؤرقة، نسأل الله تعالى أن يغفر لجميع موتى المسلمين، وأن يلهم ذويهم الصبر والسلوان، وأن ينور بصيرتنا في المحافظة على مقدرات الوطن، وأن يعيذنا من الإسراف وأهله، وأن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.