لم تكن قرارات خادم الحرمين الشريفين الشجاعة جداً، والمفرحة حتى الانتشاء، وليدة لحظة انفعالية أملتها المشاهد المأساوية، والدمار المخيف الذي حدث لمدينة جدة، والذي حاول البعض أن يعطيه صفة «الفيضان» أو «تسونامي» من أجل تضخيمه، وإبعاد الشبهات عن المهملين، واللصوص، ومهدري المال العام، وصرف الأنظار عن التقصير، والتسيب، والمشاريع الوهمية التي وقعت وقُبضت أثمان تنفيذها وهي لا تعدو كونها مشاريع ورقية، وضعت على الورق، ونفذت على الورق، وتم استلامها كمشاريع منفذة على الورق، «ويا ورق ما يهزك ريح»!؟ قلت إن قرارات خادم الحرمين الشريفين لم تكن انفعالية، ولا آنية، وليست حالة امتصاص للغضب، والذهول، والتخفيف من هول المأساة، بل كانت نابعة من ألم موجع وقاسٍ مما أصاب الناس، والمدينة، والمقدرات، وشعور بالأمانة وثقلها تجاه الوطن، والمواطن، وحياة الآخرين، وذهول من الوضع المأساوي لمدينة صرف عليها أكثر من عشرة مليارات ريال خصصت لبنيتها التحتية، وأمام كل هذا يتعرّى الزيف، وتنكشف الخديعة، وتفوح رائحة السرقات والهدر الكريهة والنتنة من غيمة تكونت، وأعطت ما في رحمها من أمطار، لا تقاس مطلقاً بما ينزل على بيروت، أو لندن، أو سواهما في دقيقة واحدة. لقد جاءت قرارات خادم الحرمين الشريفين من عمق المأساة، ورحم الكارثة، بما يعني أنها بداية طريق طويل للمساءلة، والمحاسبة، وإنصاف المواطن، والوطن من أشخاص حملوا الأمانة، وأخذوا الثقة، وعملوا على أساس المصالح الخاصة، والثراء غير المشروع، وتكديس ثروات الوطن في أرصدتهم حتى وصلت إلى أرقام فلكية، زيادة على القصور، في الداخل والخارج، واليخوت، والطائرات، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت..!! ولا خطر على قلب بشر في «الكارانتينا» أو حول «بحيرة المسك» أو في أي حي فقير يسكنه الهامش الاحتماعي. نعرف، ويقول لنا التاريخ، وحقائق الواقع أن الفساد الإداري، والمالي، والرشوة، والسرقات المنمطة من المال العام، إذا ما دخلت إلى مؤسسات الدولة، ومؤسسات المجتمع المدني، وتحولت إلى ثقافة، وفعل، وسلوك فإن أمر معالجتها في المستقبل إذا استشرت يكون صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، وبهذا تنتفي العدالة الاجتماعية، ويفرز المجتمع إلى طبقتين سفلى فقيرة لا تجد ما تأكل، وأخرى غنية متخمة ولا وسط، وهنا تكون العلل الأخلاقية، والأمنية وينحدر المجتمع إلى درك من الانحطاط، والتفتت. قرارات خادم الحرمين ستكون مفصلية في تاريخ الوطن، وليتنا نتبع ما يحدث في كل دول العالم، بأن يصرّح المسؤول عند تعيينه أمام المحكمة بأمواله المنقولة وغير المنقولة، وأموال أولاده وأسرته، وعندما يترك الوظيفة يذهب ليصرّح - أيضاً - بما لديه، وعندها يكون السؤال: - من أين لك هذا..؟؟