لعل أدق وصف وُصفت به الكارثة التي ألمت بمحافظة جدة جراء هطول الأمطار عليها,ما جاء في ثنايا الأمر الملكي الكريم,الذي قضى بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق بشأنها، بأنها:".... لم تأت تبعاً لكارثة غير معتادة على نحو ما نتابعه ونشاهده كالأعاصير والفيضانات الخارجة وتداعياتها عن نطاق الإرادة والسيطرة في حين أن هذه الفاجعة نتجت عن أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية. وإن من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة".وإذا كان الأمر كذلك,أعني كارثية النتائج التي صاحبت هطول أمطار غير كارثية,فمن المؤكد أن ثمة عوامل محددة توزعت فيما بينها مسؤولية ما حدث لعروس البحر الأحمر.لعل من بينها,إن لم يكن أهمها, ما يمكن أن يُعزى إلى غياب رقابة مالية فعالة تجمع في أدائها لمهمتها,بين جناحيها الضروريين: الرقابة المستندية, ورقابة الأداء. ولعل السؤال الرئيس هنا هو:أين يكمن الخلل الذي يمكن أن يُعزى إليه غياب فاعلية الرقابة المالية لدينا في المملكة؟ذلك ما تحاول الأسطر التالية الإجابة عنه. لكن قبل الإجابة,دعونا نأخذ فكرة مختصرة عن نظام الرقابة المالية بشكل عام. من المعروف أن الرقابة المالية تشكل أحد العوامل المهمة في دفع عجلة التنمية المستدامة إلى الأمام,ولذالك تعرَّف بأنها:"تلك التي تهدف إلى تقييم أعمال الجهات المشمولة برقابتها من ناحية كفاءتها وقدرتها على تحقيق الأهداف الموضوعة, والتأكد من أن تلك الأهداف التي حققتها تلك الجهات هي نفسها الأهداف المحددة لها من قبل, وأنها حققتها بالكفاءة المطلوبة وخلال الأوقات المحددة لها. وأنها حققتها بالتوافق مع الأنظمة واللوائح المرعية". ولكي تمارس الرقابة المالية تلك المهمات التنموية الضخمة,فلا بد لها من أن تمارس مهامها من خلال مسارين متكاملين يكمل أحدهما الآخر.هما ما يعرف ب"الرقابة المحاسبية:(المستندية), ورقابة الأداء". ولتأكيد مشروعية هذا التلازم الضروري بين المسارين,فقد حددت وثيقة (إعلان ليما), الصادرة عن المنظمة الدولية( الأنتوساي ) للأجهزة الرقابية العليا عام 1977م المهام المنوطة بالرقابة المالية بما يلي: 1 إن المهمة التقليدية للهيئات العليا للرقابة المالية هي أن تراقب مدى مشروعية ونظامية الإدارة المالية والمحاسبية(الرقابة المستندية). 2 وإلى جانب هذا النوع من الرقابة، الذي لا ينازع أحد في أهميته وضرورته، هناك نوع آخر يركز اهتمامه على مراقبة الأداء والفعالية والتوفير وكفاءة الإدارة العامة. وهذا النوع من الرقابة لا يهتم بمراقبة مظاهر معينة فقط من الإدارة, بل إنه يراقب جميع أوجه نشاطها ومن ضمنها التنظيم والنظم الإدارية(رقابة الأداء). 3 إن أهداف الرقابة المالية التي تمارسها الهيئات العليا للرقابة المالية، وهي المشروعية والنظامية(الرقابة المستندية), والكفاءة والفعالية والتوفير في الإدارة المالية(رقابة الأداء)تعتبر جميعها ذات أهمية متساوية ويترك لهيئة الرقابة المالية العليا تحديد الأهمية النسبية التي تعطى لكل منهما. في الاتجاه نفسه,يؤكد الأستاذ محمد الشريف في كتابه:( الرقابة المالية في المملكة العربية السعودية: دراسة تحليلية مقارنة) على أنه"في الوقت الذي تُعنى فيه الرقابة المحاسبية بمدى مشروعية التصرف محل المراقبة النظامية والمالية والمحاسبية,تهتم مراقبة الأداء بنواحي الفعالية والترشيد وكفاءة الإدارة, ومدى تحقق الأهداف بأقل قدر من التكاليف وبأعلى مستوى من الكفاءة". وعلى أنه" لا ينبغي التقليل من أهمية النوع الأول من أجل توجيه الاهتمام إلى النوع الثاني, فلكل منهما أهمية متساوية في مجال تحقيق أهداف الرقابة الأساسية في المحافظة على المال العام وتوجيهه إلى تحقيق أكبر قدر من أهداف الدولة الاجتماعية والاقتصادية". إضافة إلى ذلك, فقد أكد الأستاذ الشريف على ضرورة التركيز على الناحية التكاملية الرقابية بالأخذ بالمسار المزدوج لكل من الرقابة المحاسبية ورقابة الأداء بقوله" إن الاتجاهات الحديثة في الرقابة المالية والتي تدعو إلى زيادة الاهتمام بالرقابة على الأداء والكفاءة والتقويم لم تأت للتقليل من أهمية الرقابة التقليدية,وهي الرقابة المحاسبية, بل أتت لتقوي من هذه الرقابة وتدعمها وتجعلها أكثر قدرة على تقويم التصرفات المالية محل المراقبة. إذ لا يمكن ممارسة أي نوع من أنواع الرقابة على الأداء دون إجراء الرقابة المالية التقليدية أولاً لتأتي نتائج الرقابة على الأداء مكملة لدور الرقابة المحاسبية ومدعمة لنتائجها وتقاريرها". سيقتصر حديثنا في هذا الجزء من المقال على الرقابة المحاسبية التي تعرف بأنها:"الرقابة على المصروفات من حيث نظامية الإجراءات التي اتبعت للحصول على الاحتياجات. ومن حيث توفر المستندات الكاملة للصرف. والتأكد من أن النفقات أُديت على الاعتمادات المقررة لها في الميزانية. أما من حيث الإيرادات, فيتحدد دور هذه الرقابة في التأكد من صحة المبالغ التي تم تحصيلها. وصحة الحسابات التي تم ترحيلها إليها. وصحة الجهات التي تم قيد الإيرادات لصالحها". ولكي يتسنى لجهاز الرقابة المالية القيام بمهام الرقابة المحاسبية بشكل فعال, فلابد من أن تتوفر في نظامه الأركان الأساسية اللازمة للقيام بها,وهي كما يلي: 1 السجلات والدفاتر المحاسبية التي يسجل بها كافة ما يتعلق بالصرف أو الإيراد. 2 المستندات التي يتم التسجيل بموجبها في الدفاتر والسجلات المحاسبية. 3 وجود ميزانية مخصصة للجهة محل الرقابة موزعة إلى أبواب وبنود, أوبرامج, مع تعليمات واضحة تحدد ما يصرف من مبالغ من تلك الأبواب والبنود والبرامج وكيف تصرف تلك المبالغ. 4 نظام محاسبي واضح. وتقارير مالية دورية تعدها الجهات المشمولة بالرقابة المالية في فترات محددة. 5 سجلات وبيانات إحصائية( غير محاسبية) 6 لوائح مالية واضحة تسير الرقابة المالية على هديها. ويمكن القول هنا,إن الرقابة المحاسبية في المملكة تشكل منظومة رقابية متكاملة تتوفر لها تلك الأركان بشكل مكنها, ويمكنها دائماً, من تأدية الشق الرقابي المستندي بكل اقتدار. فالأركان من:الأول إلى الخامس تنظمها التعليمات المالية للميزانية والحسابات. وهي مجموعة مواد وفقرات جمعت في كتاب أصدرته وزارة المالية, ووزع على فصلين:الأول يتعلق بإعداد الميزانية العامة للدولة, والثاني يتعلق بقيد وتسجيل المتحصلات والمصروفات والحسابات الأخرى في السجلات المحاسبية وتعليمات فتح الحسابات البنكية. أما العنصر السادس فتنظمه مجموعة من الأنظمة واللوائح التنفيذية التي تنقسم إلى قسمين: قسم ينظم عمل أجهزة الرقابة المالية نفسها,كنظام الممثلين الماليين,ونظام ديوان المراقبة العامة ,ولائحته التنفيذية, واختصاصات إدارة الرقابة المالية بهيئة الرقابة والتحقيق. وقسم آخر ينظم عمل الأجهزة الحكومية المشمولة بالرقابة,كنظام المنافسات والمشتريات الحكومية,ولائحته التنفيذية.ونظام تصنيف المقاولين, ولائحته التنفيذية. إلا أن أبرز تلك الأنظمة هو:نظام المنافسات والمشتريات الحكومية. فقد صدر النظام عن إحدى و ثمانين مادة, تضمنت كل الأحكام والقواعد التي تنظم آلية المشتريات وترسية المنافسات والمزايدات بواسطة المصالح الحكومية والمؤسسات العامة الخاضعة لنظام المحاسبة الحكومية. هذا وقد جاءت مواد النظام على الشكل التالي: 1/ المبادئ الأساسية وتنظمها المواد, من الأولى إلى التاسعة. ومن أبرزها ما حملته ما جاء في المادة الأولى من أن النظام يهدف إلى ما يلي: أ تنظيم إجراءات المنافسات والمشتريات التي تقوم بها الجهات الحكومية ومنع تأثير المصالح الشخصية فيها،وذلك حماية للمال العام . ب تحقيق أقصى درجات الكفاية الاقتصادية للحصول على المشتريات الحكومية وتنفيذ مشروعاتها بأسعار تنافسية عادلة . ج تعزيز النزاهة والمنافسة،وتوفير معاملة عادلة للمتعهدين والمقاولين تحقيقاً لمبدأ تكافؤ الفرص . د تحقيق الشفافية في جميع مراحل إجراءات المنافسات والمشتريات الحكومية. 2/ قواعد تقديم العروض وفتح المظاريف وتنظمها المواد, من العاشرة حتى الخامسة عشرة. 3 قواعد فحص العروض وصلاحية التعاقد وتنظمها المواد, من السادسة عشرة وحتى السادسة والعشرين. 4 قواعد صياغة العقود ومدى تنفيذها ومواعيد تسليم مواقع المشاريع للمقاولين. وتنظمها المواد, من السابعة والعشرين وحتى الثانية والثلاثين. 5 قواعد الضمانات البنكية وتنظمها المواد, من الثالثة والثلاثين وحتى الخامسة والثلاثين. 6 قواعد زيادة وتخفيض التزامات المتعاقدين وتنظمها المادة السادسة والثلاثون. 7 قواعد صرف المقابل المالي والشراء المباشر, وتنظمها المواد, من السابعة والثلاثين وحتى السادسة والأربعين. 8 الأعمال المستثناة من الطرح في منافسة عامة وهي محصورة في المادة السابعة والأربعين. 9 قواعد الغرامات وتمديد العقود وسحب المشاريع من المقاولين وتنظمها المواد, من الثامنة والأربعين وحتى الرابعة والخمسين. 10 القواعد الخاصة ببيع المنقولات وتنظمها المواد, من الخامسة والخمسين وحتى الستين. 11 القواعد الخاصة بتأجير العقارات الحكومية واستثمارها وتنظمها المواد, من الحادية والستين وحتى الثالثة والستين. 12 أحكام عامة,مثل المساءلة التأديبية عن مخالفة أحكام النظام,والإبلاغ عن حالات الغش والتحايل وسحب الأعمال, وتكوين لجنة لتعويض المقاولين. وضمان المتعاقد لما قام به من أعمال, وتنظمها المواد, من الرابعة والستين وحتى الحادية والثمانين. مما تقدم,يمكن القول إن النظام جاء متكاملاً شاملاً لكل ما يمكن أن يؤثر,إيجابياً,على سير الرقابة المحاسبية على المشتريات الحكومية,سواءً كانت شراءً مباشراً,أو طرحاً بالمنافسات العامة. وهو ما يضيف إلى منظومة الرقابة المحاسبية في المملكة بعداً تنظيمياً وإجرائياً متكاملا. وبالتالي فيمكن القول إن الفشل الذي صاحب, ويمكن أن يصاحب مستقبلاً, تنفيذ بعض المشاريع, ومشاريع البنية التحتية منها بشكل خاص,سواءً فيما يتعلق بتنفيذ بعضها بمواصفات أدنى مما حُدِّد لها,أوفيما يتعلق بعدم تنفيذ بعضها الآخر بالكلية, لا يجب أن يُعزى إلى النظام,لكون مهمته محصورة في الرقابة المستندية فقط. بقدر ما يجب أن يعزى إلى غياب رقابة الأداء,ذلك الغياب الذي سيكون محور الجزء القادم من هذا المقال.