هل لاحظت مثلي أن كلمة (دورة ودائرة) تتكرر كثيراً في عالم السياسة والاقتصاد والتاريخ ويستغلها الجميع لتفسير الأحداث وتوقع النتائج.. ففكرة الدورة (والعودة لذات النقطة) مفهوم قديم استعان به الانسان لصياغة الأحداث في قالب زمني وظرفي يسهل فهمه واستنتاجه.. وبمرور الوقت طغت فكرة الدوره على معظم الفرضيات والنظريات العلمية واتخذت منها عنوانا واسما.. وهكذا أصبحنا نسمع عن دورة التاريخ / ودورة الحضارات / ودورة النمو / ودورة الفنون / ودورة الأخلاق / ودورة الاقتصاد / ودورة الأسهم (عليهم دائرة السوء) !! ليس هذا فحسب بل نجد إشارات عديدة على دورية الأحداث في القرآن الكريم نفسه مثل : «إنه يبدأ الخلق ثم يعيده، و ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وعليهم دائرة السوء» .. كما نلاحظ شواهد مماثلة في السنة النبوية مثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن لهذا الدين إقبالاً وإدباراً» / «تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً» / «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» !! ومن الناحية النفسية يوفر الإيمان بدورية الأحداث شعورا مقدماً بالراحة والاطمئنان.. فدورة الاقتصاد مثلا توفر أملاً بانتهاء حالة الفقر والكساد والعودة لحالة الرخاء، ودورة الحضارة تجعلنا نتوقع انحسار دور أمريكا وانكماش قوتها العسكرية كما حدث مع البرتغاليين والاسبان والبريطانيين والروس مؤخراً، أما دورة التاريخ فتنبئنا بحتمية انكسار اليهود وغلبة المسلمين وعودة المسجد الأقصى مصداقاً لقوله تعالى « فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ماعلوا تتبيرا » الإسراء. أما إن سألتني عن (دورتي المفضلة) فهي بدون شك دورة التاريخ .. فإلايمان بدورة التاريخ يسهل فهمنا لطبيعة الأحداث والمآل الذي ستنتهي إليه (حيث تنتهي غالباً الى ذات النقطة التي بدأت منها) . وفي كل مرة ندرس التاريخ بعمق وشمولية نكتشف شواهد عجيبة على صدق هذا المبدأ ؛ فعلى سبيل المثال في كتاب "الكنز المدفون والفلك المشحون" يستعرض جلال الدين السيوطي قائمة طويلة من الحكام منذ عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم وحتى الدولة الأيوبية كل سادس حاكم منهم لابد ان يقتل او يخلع من الحكم.. ودورية النحس هذه (التي اعتقد السيوطي أنها من خصائص التاريخ الاسلامي) نجد لها نماذج مماثلة لدى معظم الأمم.. ففي عصرنا الحاضر مثلاً يتعرض كل خامس رئيس للولايات المتحدة للقتل أو محاولة اغتيال كل عشرين عاما. وقد بدأت الظاهرة مع الرئيس الخامس جيمس مونرو، وترسخت مع اغتيال الرئيس ابراهام لنكولن! وكان اشهرهم الرئيس الخامس والثلاثين جون كينيدي، وآخرهم الرئيس الاربعين رونالد ريغن !! ... على أي حال ؛ قد لا تبدو فكرة الدائرة غريبة على الذهن البشري كونها واقعاً مشاهداً منذ الأزل في عالم الطبيعة حوله؛ فالدائرة مثلا هي الشكل المثالي في الكون والشائع على الأرض؛ فجذوع الأشجار وأعضاء المخلوقات وهيئة الأرض وأجزاء النباتات وبيوض الحيوانات جميعها دائرية أو تتخذ منحى دائرياً.. وفي أجسادنا نتمتع بجمجمة وعينين ومنخرين وأطراف وأعضاء دائرية أو كروية.. وإذا رفعنا أعيننا إلى السماء رأينا الكواكب والنجوم والأفلاك ذات شكل كروي أو مسار دائري تعود من خلاله (لذات النقطة). وكل هذا يثبت أن فكرة الاستدارة تظل واحدة من أعظم الحقائق الأزلية، وأن مفهوم الدائرة (سواء في الكون أو الفكر أو التاريخ) سنة كونية شاملة لا يحتاج إدراكها سوى لقليل من الملاحظة والتفكر.