في القطار المتجه من مدينة ليفربول الى لندن كنت أقرأ شقة الحرية .. مللت من هدوء ليفربول القاتل .. اكثر من عشرة أيام بالنسبة لي في مدينة لا توجد بها سوى سينما واحدة .. ولا أصدقاء أو معارف .. اكتفيت في يومي الأول بالاستمتاع بجمال الطبيعة وسحرها الخلاب .. والجلوس قبالة البحيرة ساعات طويلة بحثا عن أفق ضائع .. وتأملا بمستقبل مجهول .. بعد ذلك مرت الأيام ثقيلة ومملة .. استهلكت بها أربعة كتب آخرها كان شقة الحرية الذي جلست أعيد قراءته في رحلة القطار .. وكنت أول مرة قد قرأته في العام 1995 في الطائرة المتجهة من القاهرة الى كازابلانكا .. حينها كنت مدعوا للمشاركة بذكرى مرور ثمانمائة عام على وفاة المعتمد بن عباد حيث أقيم احتفال مهيب شارك فيه عدد كبير من الأدباء والشعراء العرب والأسبان .. والمعتمد كان أحد حكام أشبيلية في زمن حكم الطوائف .. كان شاعرا وفارسا محبا للأدب والفنون وعاشقا للجمال .. في عهده نسجت خيوط أعظم حكاية عشق في التاريخ العربي بين ابن زيدون وولادة التي وصفها بشعره قائلا : يا من غدوتُ به في الناس مشتهرا قلبي يقاسي عليك الهمّ والفكرا إن غبت لم ألق إنسانا يؤانسني وإن حضرتَ فكل الناس قد حضراا وردت عليه ولادة: أغار عليك من عيني ومني ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبَأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني كانت قصة عشق ولادة وابن زيدون حكاية شائعة في الأندلس .. وصارت مضربا للمثل على مر الزمان .. وأذكر أنني زرت مدينة قرطبة ووجدت أن العشاق هناك وضعوا نصبا لتخليد حكاية العشق هذه عبر حائط كتبت علىيه الابيات السابقة .. وصار العشاق يوثقون حبهم عند سفحه. كان ابن زيدون شاعرا ووزيرا في بلاط الخليفة المعتمد بن عباد .. وحصل أن عشق الأميرة العربية ولادة ابنة الخليفة المستكفي وعشقته .. وكان عشاق ولادة كثيرون .. وكانت هي فريدة في جمالها وشعرها ونسبها .. تصف نفسها قائلة : أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها أمكّن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها أكثر من خمس ساعات هي المسافة التي قطعها القطار من ليفربول الى لندن .. الى جانبي جلست امرأة في الأربعين .. سألتني وقد وجدتني منهمكا بالقراءة .. عن سر اندماجي بالكتاب الذي لم أرفع نظري عنه لأتمتع بجمال الطبيعة التي تحيط بنا .. حاولت أن اختصر لها حكاية الرواية .. وقصة عمنا فؤاد أو غازي القصيبي .. وشرحت لها أبعاد هذه الرواية وأهميتها الاساسية في أن مؤلفها من النخبة السياسية التي لم نعتد أن تكون لهم اعترافات شخصية بأسرار من حياتهم الشخصية .. وقلت لها إن القصيبي هذا كان سفيرا هنا في لندن ووزيرا لسنوات طويلة ولا يزال .. قالت لي الشقراء الأربعينية النحيلة إنها تعرف كثيرا عن المشرق العربي .. وإنها زارت مصر ودبي والبحرين .. وإنها كادت ذات مرة أن ترتبط بشاب عربي لكنه اختفى فجأة !! .. لم استغرب طبعا .. وقلت هكذا نحن العرب .. نحب أن نختفي وقت اللزوم .. واضافت أنها بعكس الأوربيين لم تنبهر بالفراعنة وحضارتهم .. لكن أكثر ما شدها في عالمنا العربي هو الوحدة الاجتماعية والتواصل بين الناس .. والارتباط العائلي الذي لا يوجد له مثيل عند الغرب .. قلت لها هو الاسلام الذي جمعنا بعد أن كنا شعوبا وقبائل متفرقة .. وقلت إن من أهم الجوانب الاسلامية المشرقة الاهتمام بصلة الرحم .. وإن في ديننا وصية نبوية عظيمة .. مفادها (الجنة تحت أقدام الأمهات) .. لكنني ضعفت بعض الشيء حين أردت أن أحدثها فلسفة الحب في طبيعة مجتمعاتنا الشرقية .. خاص وأنها سعت الى جرجرتي الى المحظور من القول وهي تسألني عن أوضاع المرأة في البلاد العربية والاسلامية .. وأنها تسمع مالا يسر عن حجم القيود والضغوط التي تمارس بحق المرأة .. حاولت أن أرفع معنوياتي حين قلت لها يبدو أنك أسيرة المشهد السوداوي الذي كانت تعيشه المرأة الغربية الى عهد قريب من قهر واضطهاد .. أما نحن فقد أكرم ديننا المرأة في مواضع كثيرة .. واذا كانت هناك بعض الممارسات المتطرفة في حقها .. فالمرأة قادرة على تخطي تلك العوائق .. واليوم لدينا آلاف النساء العربيات اللاتي نفتخر بهن . سألتني كيف هو شكل الحب لديكم .. قلت نحن سادة الحب وكهنته .. نحن أمة العشق والحب والهوى .. ولكن ديننا هذب تلك المشاعر ووضعها في سياقها الصحيح .. ولو تعلمين أن لدينا في تاريخنا العربي آلاف القصائد ومئات القصص والحكايات عن الحب والعشق تفوق ما لديكم في الغرب من حكايات .. وقد يكون شكسبير وغيره من ادباء قد نقلوا روح تلك الحكايات ونسبوها الى تراثكم ..أتعلمين أن شاعرا واحدا مثل أبي الطيب المتنبي قد كتب قصائد وأشعارا في الحب لا يمكن أن توصف .. يكفي أنه القائل : وعذلتُ أهل العشق حتى ذقته وعجبت كيف يموت من لا يعشق وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني عيّرتهم فلقيت فيه ما لقوا عند باب المحطة أهديتها رواية (شقة الحربة) وقلت قد تتعلمين العربية ذات يوم .. ودمتم سالمين.