الأمور لا تجري طبيعية في العراق، رغم عراقته الحضارية والتاريخية، واندماج العشيرة بالمدينة أو توطينها في المزارع، حيث بقي العراق مشتتاً، عالقاً بين وطنية سائحة، ومذهبية وعشائرية تدور حول نفسها، وكما بدأت معارك الشوارع التي قادتها الأحزاب مع انقلاب 1958م، فالصورة لم تكن زاهية مع صدام، ولا ديموقراطية حرة بعد الغزو الأمريكي، بل إن تصاعد العنف الذي يدار من جبهات الداخل والخارج، أصبح لازمة عراقية، تهدد وحدته ومستقبله.. مجزرة الأربعاء داخل المنطقة الخضراء، ليست الوحيدة في التعاطي مع العنف، ومذبحة أمس الأول ليست الأخيرة عندما حصدت (132) قتيلاً وسبعمائة جريح قابلة لمضاعفة الأعداد وهذه النتيجة لا تبرر ما قبلها، إذ إن تلاحق أعمال الإرهاب وتشابهها، يعطيان الدليل أن أجهزة الأمن مخترَقة من عمقها، والعجز الذي أدى إلى أن يصل بعض الضباط ليكونوا لصوصاً، ومهربين، وقتلة في الليل ، وحراس أمن في النهار هو أزمة حادة داخل المؤسسة الأمنية، وبسبب الفرز الاجتماعي بين سنة وشيعة ، وتحالف بعثي - قاعدي، وتنامي القوى اللاعبة من الخارج في الشأن العراقي، ثم طابور المقهورين والتمييز بين عنصر وآخر، شكلت بمجموعها الفوضى الدائمة والتي لم تُبق من أجزاء العراق كملاذ آمن إلا شماله الكردي.. طوفان الموت المتسارع طغى على كل شيء ويعود السبب إلى أن المؤسسة الحكومية نفسها تعيش انقسامات حادة أخلّت بتوازنها، والضعف لا يُعزى لشخص بل للقيادة كلها التي لم تراعِ الفراغات الهائلة بدءاً من حل الجيش وأجهزة الأمن أيام حكم «بريمر» ثم الفراغ الآخر بعد انسحاب القوات الأمريكية من داخل المدن، وثالثاً هشاشة وشكوك التنظيمات سريعة الانقلاب على بعضها والدلائل أن إعلان توقيت الانتخابات وفيما إذا كانت مفتوحة أم مغلقة أثار جدلاً ربما يُعيقها، أو يضعها في طريق المصادفات المعقدة.. قد تكون الأطراف الخارجية هي صانعة الأزمات، لكن مع الأخذ بهذا الاعتبار كيف أصبحت المؤسسات الأمنية بهذه الهلامية والتسطح، وعدم الفاعلية، وهي التي تؤكد أن لديها القدرة على حماية العراق بصرف النظر عن بقاء القوات الأمريكية أو انسحابها؟ ومع افتراض أن الاهتزاز الأمني تبرره ظروف خارجة عن قدرة الدولة، فهل يمكن تصدير المشكلة للخارج دون تنظيف الجيوب الداخلية المتآمرة على سلامة العراق، والمعرقلة لأي نشاط يبعث على الحياة المستقرة، بأن تأتي المكاشفة من الحكومة واضحة لترتيب أولويات المهمات وأصعبها وأعقدها خطورة وهي الضياع الأمني؟ نعم الظروف التي يمر بها العراق وضعته في دائرة تنازع القوى، لكن إذا ما استمرت الحالة الراهنة فإن مبرر العنف سيبقى، لأن أفعل التفضيل للطائفة والعشيرة، والولاء للخارج هما سببان خطيران على بقاء العراق متماسكاً، ولعل إعادة النظر بجملة السياسات وأخذ الاعتبارات التي تعني احترام مؤسسات الدولة ودفعها لأنْ تتعامل بكفاءة العدل بين الجميع، والانفتاح على جميع الأطياف ربما تعطي دفعة نحو تأسيس أجهزة أمن متماسكة، وإلا فالخيارات مفتوحة على العديد من المفاجآت..