بينما تبذل حكومات محلية، وقوى دولية مساندة وحليفة، وسعها في سبيل السيطرة السياسية والأمنية على أجزاء من بلادها، ترد قوى معارضة مسلحة على المحاولات المتفرقة هذه بهجمات إرهابية دامية «ناجحة». ففي العراق وأفغانستان وباكستان، وعلى وجهين مختلفين في إيران ولبنان، تشن منظمات مسلحة حرباً على حلفائها ورعاتها. ولكنها تستهدف في المرتبة الاولى الأهالي المدنيين، وتوقع فيهم الشطر الأكبر من الخسائر. والإرهاب هذا ليس أعمى، على خلاف بعض المزاعم. والأدقُ القولُ ان عماه المزعوم اي ضربه المدنيين، جزء من سياسة بصيرة وحادة النظر. ففي البلدان الثلاثة الكبيرة، اي العراق وأفغانستان وباكستان، وهي الساحات البارزة، تتصل الهجمات بثلاث عمليات سياسية واضحة الدلالة والمترتبات. فمنتصف الشهر الأول من 2010 هو موعد أول انتخابات عامة عراقية، جامعة وفعلية. وعلى خلاف الدورة السابقة، قبل 5 أعوام، تشارك في الدورة المقبلة والوشيكة أحزاب وجبهات وكيانات لا تستثني جماعة أهلية أو سياسية واحدة من الجماعات العراقية المتنافسة والمتآلفة، ما عدا البعثيين المتمسكين ب «شهيدهم» وتاريخه وإنجازاته. والانتخابات القريبة - بعد توقيع الحكومة العراقية الاتفاقين الأمني والعسكري الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة، وإقرار انسحاب القوات الأميركية من المدن تمهيداً لانسحاب شامل في غضون اقل من عامين - هي مفتاح استقرار دولة وطنية عراقية واحدة ومستقلة اختارها شطر غالب من مواطنيها، وقواهم السياسية الكثيرة والمتنوعة والمتنافسة، اختياراً قريباً من التزام معايير الحريات السياسية والعامة. وعلى هذا، تتهدد الانتخابات الوشيكة، إذا جرت في إطار موازين القوى القائمة منذ منعطف 2007 مصالح إقليمية وعراقية داخلية قوية. فالإطار نجم عن تسلم نوري المالكي رئاسة الحكومة وأجهزة الدولة الناشئة، وكسر شوكة منظمات «القاعدة» والبعث السري و «جيش» مقتدى الصدر، واستمالة «الصحوات» السنية القبلية، وإضعاف «المجلس الأعلى» الشيعي الاتحادي، وتثبيت كرد العراق على حكمهم الذاتي. والإنجازات هذه، على التباسها العميق، تضع العراق، دولة ومجتمعاً (أو مجتمعات)، على مفترق طرق قد تؤدي إحداها الى استتمام نظام سياسي اتحادي وانتخابي متعدد القوى في قيادة أهلية وطائفية شيعية، وإلى وضعه على طريق استعادة موارد طبيعية واقتصادية غنية، في رعاية أمنية أميركية. ويخالف هذا، مجتمِعاً أو متفرقاً الى عناصر منفردة، سياسات جوار كثيرة. وتناصر السياسات هذه، على تنازعها في أوقات كثيرة، نزعات وتيارات داخلية تحاول إرجاء استتمام النظام السياسي واستقراره على أركانه القلقة. فإذا أقرت الانتخابات المزمعة هذه الإركان، وهي تخالف أركان معظم أنظمة الجوار، برز العراق قوة متماسكة، وربما رائدة، في الإطار الإقليمي الممزق، المضطرب والمتنازع. وبروزه على هذا النحو، وهو الخارج من أربعة عقود من استبداد حزبي وقومي وأمني مدمر، ومن حربين إقليميتين ثقيلتين، وعزلة دولية كان ختامها اجتياحاً عسكرياً واحتلالاً أجنبيين «استعماريين»، و «مقاومات» غلب عليها الإرهاب وصدعت بقايا المقومات الوطنية الجامعة وعصفت بها - يمهد البروز ربما لأداء العراق أدواراً سياسية ترجح كفة القوى المعتدلة والمتماسكة في المنطقة، ومنها تركيا، على بعض التخبط والتعرج. وهذا يعني ان الاحتلال ليس آخر المطاف، وأن قتال المحتل قتالاً مستميتاً ومن غير احتساب «التناقضات في صفوف الشعب» ليس مفتاح الحل الناجز، ولا ينطوي على الأبنية السياسية الناجعة. وينبغي التذكير، في خضم المدائح التي تكال اليوم الى السياسة التركية الخارجية وبعضها مصطنع ومحابٍ، بأن السعي التركي في إخماد بعض بؤر الإرهاب «القومي» حاربته أنظمة تناصب اليوم العراق «المدوّل» (على قول الرئيس السوري) العداء الشديد، وتؤوي مهاجري نظامه السابق وأموالهم وإعلامهم وبعض شبكاتهم. وتقاوم طالبان الأفغانية والباكستانية، وتؤيدهما «القاعدة» العربية والأوزبكية والشيشانية، محاولة الحكومتين بسط سلطة الدولة وسيادتها على مناطق وأقاليم تحظى باستقلال ذاتي اهلي وأمني سياسي قديم. ويتصل بعض المناطق والأقاليم ببعضها الآخر، ويغذي استقلاله وخروجه على سلطة «مركزية» متهاوية وهزيلة تنخرها العصبيات، ويعزلها الفساد عن جمهور مواطنيها وعامتهم، ويشل خططها المدنية وخطط حلفائها ورعاتها الدوليين والإقليميين. وأدى تقاسم السلطة والصراع عليها في كابول، والتنازع على عوائد الرعاية والوصاية الأجنبيتين، وإحجام السلطات الباكستانية عن مطاردة قادة «القاعدة» والطالبانيين المحليين واللاجئين من افغانستان وقطع مواردهم، الى انبعاث حلف المنظمتين أو الشبكتين. ويتذرع الطالبانيون وقادة شبكة «القاعدة» ومقاتلو عشائر المناطق القبلية بحرب القوات الدولية والأطلسية والأميركية على قواعدهم المتغلغلة في أوساط الأهالي، الى تعبئة الجماعات الأهلية على الأجانب «الكفار»، وعلى «التنظيمات» الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي يراها الأجانب علاجاً للإرهاب واحتضانه. فكانت الدعوة الى انتخابات رئاسية بأفغانستان، وقبلها مساندة السياسة الأميركية تحولاً باكستانياً عميقاً يقدم اجتثاث القواعد الطالبانية من الأقاليم القبلية والحدودية على النزاع «القومي» والديني مع الهند، غداة عملية مومباي الدامية، كانا (الدعوة والمساندة) داعيين قويين الى شن الجماعات والشبكات الباكستانية والأفغانية المتحالفة هجماتها في روالبندي ولاهور وكابول وقندهار وخيبر وبيشاور. وتستهدف الهجمات الطالبانية والقاعدية الهيئات الأمنية والعسكرية والإدارية، الوطنية والأجنبية، على قدر ما تستهدف الأسواق والمصارف ومفترقات الطرق والمدارس والأعيان المستقلين أو الموالين للحكومة. وتجمع العمليات الإرهابية الطالبانية، بباكستان وأفغانستان، مدارس البنات (ومدرساتها) وبيوت ضيافة الأممالمتحدة ودوريات قوات الأمن المحلية والقواعد العسكرية ومراكز الاقتراع، في هدف مشترك. وتستعمل في تفجيراتها هذه، في وسط المدنيين وفي الهجوم على دوريات القوات العسكرية وعلى مقر الأركان، عبوات محلية تبلغ زنتها طناً أو أقل بقليل. والجمع بين الأهداف هذه، على تفاوتها واختلافها الظاهرين والفعليين، قرينة على مراد الجماعات والشبكات الإرهابية، وهو الحؤول دون تولي «الدولة» المركزية إدارة مرافق عامة، من التعليم الى المواصلات والبلديات، ومنعها من السيطرة على الأقاليم الوطنية ومن انتهاج سياسة وطنية وخارجية تقدم مصالح إقليمية مشتركة ودولية على منازعات الجماعات الأهلية و «القومية» الدينية، الموروثة والقديمة. ولا تفتقر الجماعات والشبكات هذه، لا في باكستان وأفغانستان ولا في العراق (أو فلسطين ولبنان استطراداً)، الى حلفاء اقوياء في أجهزة الدولة التي تصليها الجماعات والشبكات الحرب. ولعل الحلف المتين، العصبي والسياسي الإيديولوجي، بين الجماعات والشبكات وبين أجزاء من الأجهزة العسكرية والأمنية والإدارية، عامل راجح في اختراق المقاتلين الانتحاريين اجراءات الأمن والحماية الحكومية. وفي الأحوال هذه كلها، الآسيوية والشرق أوسطية، تتمتع الشبكات الإرهابية بملاجئ وقواعد خلفية، أقاليمَ ومناطقَ وأحياء مدن أو دولاً مساندة. فيستحيل عليها إعداد هجماتها من دون الملاجئ والقواعد الخلفية هذه وهي تحصن ملاجئها وقواعدها، في الداخل، بواسطة عصبيات وروابط اهلية تنفخ في النزعات الاستقلالية المعادية للدولة، على اشكالها، والمناوئة للأحلاف السياسية التي تؤلف بين الجماعات، وتشترط المساومات، وتقدم الدولة على الجماعات. وتحصن الجماعات والشبكات ملاجئها وقواعدها في الخارج، وهو غالباً جوار قريب ومتصل جغرافياً بمسرح القتال، بالانخراط في سياسة دول اللجوء، أو بعض اجهزتها الغالبة. وتنقاد الى خطط الأجهزة الإقليمية، وإلى حربها (أو حروبها) على قوة دولية كبيرة، أو دول إقليمية مخالفة، او على جماعات أهلية أو سياسية داخل الدولة نفسها. وتؤدي الولاياتالمتحدة والهند وإسرائيل وبعض الدول العربية «القطبية»، والغرب عموماً (على رغم الهند) أو فروعه المفترضة، أدواراً ثابتة وناتئة في الصراع الدامي هذا. ويبرر الجمع بين العصبيات الضيقة والنواتية وبين الاستراتيجيات الوطنية والإقليمية والدولية العريضة في كتلة واحدة ومتصلة (من رهط آل محسود في كانيغورام وساراروغا الى حلف جماعات من البشتون في وزيرستان فإلى حلف من القوم نفسهم في شبه القارة بين الهند وآسيا الوسطى فإلى الانقسام القومي والديني الإقليمي والنووي بشرق آسيا...) يبرر صبَّ عنف متماد ومدمر على المدنيين العزل الذين ينتظرون حافلة نقل أو صادف مرورهم بالطريق. فالقتل، في هذه الحال، جزء من صرف العملة «الجهادية» على الكفر والغزو والعنف، ومن النضال ضد الاستكبار والصهيونية. و«يجوز»، على هذا، قتل رفيق الحريري، أو اغتيال فتحاويين، أو خوض انتخابات عامة طوال 4 سنوات بواسطة القتل والترويع، أو الاستدراج الى حرب أو عملية أمنية باهظة، في إطار الجمع بين عصبية مذهبية ومحلية وبين استراتيجية إقليمية ودولية يتربع السلاح النووي، و«إصلاح» المجتمع الدولي على قول أحمدي نجاد، في ذروتها. فالجغرافية السياسية التي يتولى سياسيون أتراك الترويج لها، ويهتف لها ساسة سوريون، وقد تبطن نزعة شعبوية وقومية ثأرية، تحتمل تأويلاً كثير الوجوه والمعاني. والتأويل على معنى السلطنة، أو الامبراطورية والاستتباع بالقوة والولاء العصبي، يقود الى إجهاض الدولة، وقطع علاقاتها بمجتمع الدول، وإلى إذكاء منازعات حادة لا يتماسك معنى عام (قانوناً أو هيئة أو عرفاً) في وجه عصفها. والتأويل هذا، على رغم استقطابه حوادث وحروباً وسياسات «كبيرة»، لا يشق طريقاً الى مناقشة سياسية ودولية كتلك التي بعثها «تقرير» غولدستون. وهذا نصر آخر تحرزه السياسات الأهلية والإقليمية على المجتمع الدولي. * كاتب لبناني