لنبدأ بهذه القصة القديمة.. كان (عبيد) واحداً من أبرز أشقياء الحيّ، أو هو أشهرهم على الإطلاق.. لاحظوا أننا لم نقل أنه أكثرهم شقاوة!!..هو فقط أبرزهم وأشهرهم(؟). كان مثل غيره من الصبية الذين يأخذهم اللهو أحيانا بكل براءة إلى ارتكاب بعض الممنوعات، وعندما بدأت شركة الكهرباء لأول مرّة في نصب الأعمدة الخشبية في الشوارع لتعليق المصابيح الصفراء عليها لإنارة الشوارع والباحات، بدأ عبيد في اختبار كفاءته في "التنشين" على تلك المصابيح تارة بما يُعرف ب (النبّيطة أو النبّالة) وتارة بالمقلاع، وثالثة بضربها بأحجار الشارع بيده مباشرة، كثيرون من الصبية كانوا يفعلون الشيء ذاته.. كما لو أنه إعلان في الاتجاه الخاطىء عن فرحتهم بهذا الضوء الذي مزّق عتمة حياتهم، غير أن عبيد ما إن يكسر فانوساً إلا ويُبادر بالذهاب لوالده ليعترف له بما اقترف، فيما كان والده يطبع قُبلة على جبينه تقديراً لصراحته واعترافه بخطئه، قبل أن يأخذه بأذنه إلى مكتب الصيانة في الشركة التي وقعت عليه ثلاثة تعهدات بألا يُعيد ما فعل. ولم يكن عبيد وقتها يعرف سر هذا التناقض في تصرف والده.. فهو يُحييه ويعاتبه بلطف، ولكنه يأخذه لمن يُعاقبه.. ومع هذا فقد كان يجد في ذلك استمرارا لتلك العلاقة المدهشة بوالده. وفي مساء شتوي بارد كان أحد أصدقاء عبيد يلوي بذراعه سلكا حديديا ليختبر مهارته في تعليقه بقذفه على أسلاك الشبكة العارية، وما أن استقر هناك حتى سمع دويا مفزعا أظلمت بعده نصف المدينة نتيجة التماس الأسلاك مع بعضها وانفجار المحول الرئيس، فهرب الصبي واحتمى بوالده الذي بادره بالسؤال: (عسى ما شافك أحد؟)، ولأنه لم يره أحد .. فقد أُلصقت التهمة مباشرة بالشيطان عبيد الذي كان وقتها يغط في فراشه نتيجة إصابته بالحمى من أثر (الخشّة)، والركض في الأزقة حافي القدمين. والد عبيد كان على ثقة مطلقة من براءة ابنه من هذا الصنيع وهو الذي ما توانى مرّة عن الاعتراف بخطئه مهما كان صغيراً أو كبيراً.. أمّا الآخرون بمن فيهم والد الصبي المخطئ وهو مدير المدرسة فقد انكفأوا على أنفسهم وكأن الأمر لا يعني لهم شيئا.. رغم أنهم يعرفون بشكل منفرد أن كل أبنائهم يفعلون ما يفعله عبيد وأكثر، وهم الذين يتحصنون دائما ب (عسى ما شافك أحد)، و(انتبه لا تعيدها مرة ثانية) ويا دار ما دخلك شر ّ!. مرّت السنين وأصبح عبيد واحداً من أكبر المهندسين في إحدى دوائر الدولة في العاصمة، أما شلة (عسى ما شافك أحد) ففعلاً (ما شافهم أحد) من حينها .. أحدهم تخرج من معهد المعلمين وفشل في التدريس فتمّ تحويله إلى وظيفة إدارية بمكتب تحت الدرج في إحدى المدارس، والآخر لم يُفلح في اجتياز الكفاءة المتوسطة، فذهب إلى معارض السيارات للعمل ك (شريطي)، فيما غاب البقية في وظائف دنيا لا تكاد تفي باحتياجاتهم، وحينما يعود عبيد في الإجازات إلى مدينته، ويلتقيهم كأصدقاء طفولة، كانوا لا يستطيعون إخفاء حسدهم تجاهه ليس لأنه شق طريقه إلى وظيفة مرموقة بجدارته، ومازال يواصل نجاحاته، وإنما يحسدونه أيضا على ذلك الصفاء النفسي والذهني الذي ينعم به، وهم المثقلون بالعقد والاحباطات. هل انتهت القصة؟ هنا انتهت قصة عبيد وبدأت حكاية التحقيق.. ولكم أن تعلموا أن والد عبيد الذي زرع فيه فضيلة التصالح مع نفسه ما كان سوى فلاح بسيط.. هو أقرب للرعيان منه إلى الفلاح، حيث كان معظم نشاط مزرعته يقوم على تربية الماشية وتعليفها.. فيما كان آباء أصدقائه الذين كانوا يُلقنون أبناءهم ثقافة (عسى ما شافك أحد) ما بين مدير مدرسة ومعلم لغة عربية، وأحدهم جامعي متخصص في التاريخ. ماذا يقول لكم هذا؟.. لا بد أنه يقول: أنها ثقافة لا ترتبط بالوعي المعرفي المجرد، وإنما ترتبط بالوعي السلوكي التربوي.. أليس كذلك؟. قناع عسى ما شافك أحد كثيرون منا من قبل واليوم وغد، وإلى ما شاء الله، يستخدمون هذا القناع.. لأن الفلسفة السائدة اجتماعياً تعتني كثيراً بما سيقوله الناس، حتى ولو كان الأمر يتصل ببعض العبث الطفولي الذي يقود إلى بعض الأخطاء وربما الخطايا والارتكابات التي تجسد فكر الطفولة وسجيتها العابثة، لذلك يهرعون مباشرة لتغطية تلك الارتكابات ب (عسى ما شافك أحد) كأحد أهمّ لوازم التكتيم على الأمر.. دون أن يتنبهوا إلى أنهم يؤسسون في عقول أبنائهم أبشع الحماقات، ويحمّلونهم عذاب تأنيب الضمير، والعيش تحت وطأة العقد في بقية حياتهم.. بعضهم يعرف، لكن الثقافة السائدة في المجتمع أقوى من معرفته فيسلم لها طوعاً أو كرهاً حتى لا ينفصل عن القطيع.. وينسى أو يتناسى أن الاعتراف بالخطأ ومن ثم استخدام ثقافة الاعتذار هي صابون النفوس التي تريد أن تتحرر من أخطاء أمس لتدخل اليوم التالي بنفس بيضاء نقية لا تجد ما يثقل كاهلها. والد عبيد وحده في تلك القصة كان يعرف هذا الأمر بالسليقة دون أن يقرأه في كتاب، كان يعرف أن عبيد لا يُمكن أن يتصالح مع نفسه كأول شرط من شروط النجاح في الحياة، ما لم يواجه أخطاءه بشجاعة، وينتهي منها بما تستحق عتبا كان أو حتى عقوبة، ليطوي صفحتها إلى الأبد، ويبدأ مع مشرق كل شمس يوم جديد دون أية أحمال نفسية إضافية. أمّا الذين انشغلوا بما سيقوله الناس.. فإن كانوا قد نجحوا في تحييد الناس عن لغو الكلام لبعض الوقت.. رغم أنهم يعلمون أن عالم الطفولة على براءته فهو ليس عالماً ملائكياً لا يلازمه الخطأ، فإنهم فشلوا في تخليص أبنائهم من تلك الأقنعة التي ستظل تلازمهم طيلة حياتهم. ثقافة الاعتذار لو فكر كل أب ممن يؤمنون بثقافة (عسى ما شافك أحد) في حجم الأذى الذي سيسببه لابنه بقية حياته، والشرخ النفسي والندوب الكبيرة التي ستتركها هذه التربية لبادر في تشجيعه على ثقافة الاعتذار، ليتخفف من أوزار أخطائه بمواجهتها. لنعد قليلا لدفاترنا وننبشها سنجد أننا فعلنا الحماقات نفسها، والأخطاء ذاتها، والنتيجة كانت مزيداً من الأقنعة ولا شيء غير ذلك.. خذ مجموعة من المعلمين الآن، وضعهم في فصل دراسي لتدريبهم على خطة عمل أو أي شيء، ولاحظ تصرفاتهم.. ستجد أن كثيرين منهم سيعودون إلى عبث الطفولة.. ستجد من بينهم من يُصفرون من وراء ظهر المدرب، ومن يتراشقون بالقراطيس الملفوفة، سيمارسون كل ما يُعاقبون عليه تلاميذهم اليوم، لأن هذا العبث جزء من التركيبة النفسية للطفولة.. وهم يُحاولون هنا أن يستردّوا طفولتهم التي سُرقت منهم، بعدما ظللتها ثقافة (عسى ما شافك أحد).. في حين أنهم لو ضبطوا طفلا يُمارس هذه الممارسات في صفوفهم اليوم لنكلوا به.. لأنهم لم يتربوا على ثقافة الاعتذار ولم يشجعوا طلابهم عليها.. والنتيجة الحتمية لهذه السلوكيات هي نمو خصلة النفاق، والمزيد من الأقنعة التي ستقطر وراءها تلك المسلكيات الصغيرة لتكبر الخطايا وتزداد الأقنعة، ومن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. لقد صنعت ثقافة (عسى ما شافك أحد) في مجتمعاتنا ما لم تصنعه كل الأخطاء التي خشينا من أن يراها الناس.. جعلتنا، كما يقول نزار:(مزدوجين أخلاقاً وتفكيراً)، أقلنا يعيش بشخصيتين واحدة نرتديها مع ملابسنا للخروج إلى الشارع والناس، والأخرى مع ثياب النوم لنتحلل من تلك الأغطية. البعض يسأل باستغراب لماذا يبدو معظم شبابنا هكذا حينما يُسافرون خارج الوطن؟، وينسون تربية (عسى ما شافك أحد) ..على أن هذا الأحد هو فقط من يعرفك.. أما من لا يعرفك فحتماً هو ليس أحد!!. أما الأكثر غرابة.. فهو أن كل المناهج بما في ذلك ما كان يسمى بالتربية السلوكية ما كانت تلامس هذه المسألة على أهميتها في بناء الشخصية السوية كقيمة حضارية وأخلاقية، وإن فعلت فمن قبيل الإشارة فقط.. ربما لأنها تتوهمّ أننا كلنا لبيبون، واللبيب بالإشارة يفهم، وعلى ذكر الإشارة.. تكفينا وقفة واحدة أمام إشارة المرور لنتأمل كيف تغلغلت ثقافة (عسى ما شافك أحد) في سلوكياتنا، حيث يصر البعض على قطع الإشارة الضوئية شريطة أن ما يشوفه أحد، والأحد هنا هو شرطي المرور، وليس ضمير الوعي.!. وهذا ما يحدث في أشياء كثيرة من جوانب حياتنا.. حيث نتصرف بطريقتين (حينما لا يرانا أحد) و(حينما يرانا ذلك الأحد!).