منذ أن وحد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه هذا الكيان الكبير وهو يحرص على محاربة الفساد وتطبيق شرع الله وتحقيق العدالة بين أفراد المجتمع، وكان يهدف من وراء ذلك إلى وجود مجتمع مترابط بعيداً عن الانحرافات بأشكالها المتعددة، ولقد سار على هذا النهج أبناؤه قادة هذه البلاد، الذين سنوا عدة أنظمة ولوائح تؤكد على مبدأ الشفافية والوضوح في التعامل ومحاربة الفساد من خلال التنظيمات والمنظمات المحلية، وفي ظل هذا العهد الزاهر الميمون لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، الذي تشهد بلادنا خلاله نهضة حضارية متعددة الأوجه، تبرز هنا أهمية بناء وتفعيل مقومات إنجاح خطط التنمية، وإزالة المعوقات التي قد تعيق تنفيذ هذه الأهداف السامية. وفي هذا الإطار تأتي الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، التي أقرها مجلس الوزراء في شهر صفر من عام 1428ه كأحد مقومات نجاح خطط التنمية الطموحة التي تشهدها المملكة، وذلك في إطار البرنامج التطويري لخادم الحرمين الشريفين. ولقد تراءت الأفكار عبر هذه الندوة التي شارك فيها عدد من الأساتذة المختصين على أهمية وضرورة تفعيل هذه الإستراتيجية الوطنية. الفساد ظاهرة عالمية يقول الدكتور إبراهيم المشيقح بأن الفساد الإداري والمالي ظاهرة عالمية تعاني منها كافة المجتمعات، وقال بأن للفساد الإداري مفهوما واسعا لا يمكن أن يحويه تعريف واحد، وأن من صور الفساد الإداري استغلال المركز الوظيفي والتزوير وتعيين الأقارب والأصدقاء في مناصب لا تناسب مؤهلاتهم، مضيفاً بأن الفساد الإداري يؤدي بالنهاية إلى الفساد المالي، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك عندما يكون الفساد منهجاً، وحينما تذوب القيم والمبادئ فيصبح الفساد مألوفاً والتحايل على النظام أمراً إبداعياً. وقال بأن صندوق النقد الدولي قد عرّف الفساد بأنه "استغلال السلطة لأغراض خاصة" سواءً في تجارة الوظيفة أو الابتزاز أو المحاباة أو إهدار المال العام والتلاعب فيه، سواءً كان هذا مباشراً أو غير مباشر، مبينا بأن منظمة الأممالمتحدة قد أصدرت عدد من القرارات لمحاربة ومكافحة الفساد للقضاء عليه أو الحد منه، إضافة إلى أن البنك الدولي قد وضع عدد من الخطوات الإستراتيجية لمساعدة الدول لمواجهة الفساد والحد منه، إلى جانب منظمة الثقافة العالمية التي وضعت عدة تشريعات إستراتيجية لمواجهته، وقال بأن المملكة قد صادقت على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمحاربة الفساد وإساءة استعمال السلطة الوظيفية، وهناك مرسوم ملكي كريم صدر برقم (43) وتاريخ 1377ه أضفى على الفساد صفة الجريمة وعمد لمعالجتها ووضع حدً لانتشارها في المجتمع . تفعيل الرقابة كما يؤكد الدكتور المشيقح بأن فترات الطفرة التي عاشتها المملكة أحدثت فجوة في البنية الاجتماعية، حيث كان لهذه الفجوة تأثير سلبي على القيم لدى بعض الأشخاص، وقال: هناك أسباب تربوية وسلوكية وأسباب اقتصادية وأسباب قانونية ساهمت في وجود هذا الخلل، وإن كان سوء الصياغة القانونية واللوائح نتيجة غموضها أدى إلى الفساد الذي تعى الاستراتيجية الوطنية للحد منه. ويضيف الدكتور المشيقح أن الفساد الإداري والمالي هو أكبر معوقات التنمية، ولذلك لابد من أن تكون هناك مؤسسات رقابية خاصة مستقلة تشرف على العمل في الهيئات الحكومية، وليس الحكومية فحسب، بل وبعض مؤسسات القطاع الخاص، لأن في هذه المؤسسات أموال للناس، كذلك يجب تحسين الوضع الوظيفي للأفراد وتطوير القواعد النظامية المطبقة، وتكثيف الجهود الخاصة بالتوعية. وحول ضرورة وجود أنظمة تؤدي إلى وقف هذه التجاوزات، قال الدكتور المشيقح: "لدينا من النظم والآليات ما يؤدي إلى تحقيق هذا الغرض، ولقد صدرت في إطار النظام القضائي والإداري ثلاثة أنظمة، وهي نظام الإجراءات الجزئية، ونظام المرافعات، ونظام المحاماة، إضافة إلى إقرار الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد"، مؤكداً بأن هذه الأنظمة قادرة على الحد من الفساد بصورة غير مباشرة"، وقال بأن هناك تعميم من سمو ولي العهد حفظه الله بالتأكيد على سرعة إنجاز القضايا ومسائلة الجهة التي تؤخرها أكثر من ثلاثة أيام، مشيرا إلى أن تفعيل هذه الأنظمة والقرارات سوف يحقق ما تهدف إلية حكومتنا الرشيدة للقضاء والحد من مظاهر الفساد على مختلف أشكاله. من جانبه قال الدكتور فيصل الخميس، أمين عام الغرفة التجارية الصناعية بالقصيم، بأن الطفرة الأخيرة التي واكبت التنمية بالمملكة صاحبها عدة قرارات تنموية جريئة وطموحة ظلت تسير في مسارين، الأول يمثل تلك القرارات، أما المسار الآخر كان يمثل التطبيق، والمطلوب في هذه المرحلة أن ترقى هذه القرارات المهمة إلى التطبيق الفعلي على كافة المستويات. الفساد جريمة الدكتور يوسف الرميح، الأستاذ بجامعة القصيم والمتخصص بعلم الجريمة والمستشار في إمارة منطقة القصيم، قال: "جميع المجتمعات تعاني من الفساد ولا يوجد مجتمع يخلوا من هذه الآفة، وللأسف الشديد فإن الإنسان أحياناً مع نفسه يمارس الجريمة، وذلك من خلال تناول المخدرات والخمور وغير ذلك من الجرائم، أما بالنسبة للفساد المالي والإداري فإنه يدخل فيه عدة أمور، لعل من أكثرها شيوعاً السرقات من أماكن العمل، وأدناها استغلال السلطة في استخدام الأدوات والتجهيزات الخاصة بالعمل والممتلكات العامة للأغراض الشخصية، وهذا ما يتعارض مع مبدأ النزاهة والأمانة، وتتطور مظاهر الفساد إلى جرائم الرشاوى والتحايل مع الغير في الحصول على الأموال بالطرق غير المشروعة، والإخلال بالعقود والالتزامات المالية، والاختلاسات وما إلى ذلك من جوانب الفساد المالي والإداري المتعددة"، وقال بأنه للحد من هذه الجرائم، فإن الوضع يتطلب تحفيز المبلغين عن هذه الجرائم بمنحهم نسب عالية من قيمة تلك المبالغ، خاصة الرشاوى وإيجاد نظام يكفل تنفيذ هذه الالتزامات لمكافأة المبلغين. وأضاف بأن مشاكل الفساد المالي والإداري تحتاج إلى وقفة جادة، وقال: "من وجهة نظري كمتخصص بعلم الجريمة، فإن الفساد على مختلف أنواعه يحتاج إلى عقاب، ولابد من تقنين العقاب وتعريف الجرائم، لأن الكثير من العاملين في القطاع العام والخاص لا يدركون ولا يميزون خطورة بعض تصرفاتهم الخاطئة، وبالتالي ضرورة تعريفهم بالمسموح والممنوع وإيضاح العقوبات". غياب العقاب! كما يقول الدكتور يوسف الرميح بأن النظريات الجنائية تؤكد بأن الفساد المالي والإداري يحصل مع وجود الطفرة الاقتصادية، وبالتالي لابد من وجود مرشحات في المجتمع ومن هذه المرشحات نشر ثقافة الخوف من الله، وتعزيز مكانة الأمانة، وتفعيل النظم والقرارات الرادعة لأي فساد أو جريمة يرتكبها أي شخص مهما كان موقعه أو مكانته، مما يمثل نوع من العدالة بين أفراد المجتمع في تطبيق العقوبات. وقال الدكتور أحمد الشميمري: لقد أثبتت الدراسات التي أجرتها منظمة الشفافية العالمية أن هناك علاقة عكسية حقيقية بين التنافسية ومستوى الفساد في أي دولة، فكلما زادت القوة التنافسية لدولة ما قل مستوى الفساد فيها، وكلما زادت نسبة الفساد قلت قوتها التنافسية بين الدول، وظهر صدق هذه العلاقة عبر السنين، وللأسف الشديد فقد أظهر المقياس العالمي للفساد الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية لعام 2009م، أن نسبة الذين دفعوا رشوة في بلدان الشرق الأوسط بلغت 40%، مقابل 5% في أوروبا و2% فقط في شمال أمريكا. وأكد الدكتور الشميمري بأنه عندما يستشري الفساد في بلد ما، فإن ذلك سيؤدي إلى زعزعة الثقة في النظام الاقتصادي وزيادة البطالة وتفشي الفقر لعدم الكفاءة والمساواة، ومن آثاره أنه سيؤدي إلى التلاعب بأموال الدولة أو إهدارها، كما يؤدي انتشار الفساد إلى ضياع الحقوق وزيادة والخلافات بين الناس. كما يشير د.الشميمري أستاذ الإدارة والتسويق بجامعة الملك سعود إلى أن الفساد المالي يمثل مخالفة للتعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية، مما يعتبر انحرافاً إدارياً يرتكبه الموظف العام المسئول عن ذلك، وكذلك الإسراف في استخدام المال العام، وقال:" الإسراف يأخذ أشكالاً وصوراً مختلفة، أكثرها انتشاراً اتجاه أغلب القائمين على الأجهزة إلى تبديد الأموال العامة في الإنفاق على الأبنية والأثاث والرواتب المدفوعة بلا عمل على حشد السكرتارية وأجهزة العلاقات العامة، فضلاً عن المبالغة في استخدام السيارات في الأغراض المنزلية والشخصية وإقامة الحفلات الترفيهية، والإنفاق ببذخ على الدعاية لكبار المسئولين". كما تؤدي الرشوة إلى إهدار مبدأ الخدمة العامة ونمو القطاع الخاص، ونظراً لخطورة هذه الظاهرة فقد حرم الإسلام الرشوة ، فقال عز وجل "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، وقال تعالى "ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أنه كان حوباً كبيراً" ، وترك تحديد الجزاء الدنيوي عليها لولي الأمر يقدره لما يراعي ظروف الزمان والمكان وما يحقق المصلحة العامة. أما اختلاس المال العام فيأخذ أشكالاً مختلفة، منها قيام بعض المؤتمنين بتحصيل أموال غير مستحقة، أو الأخذ من خزينة الجهة الحكومية أو سرقة مخازنها بواسطة المسئولين عنها، ومعالجة ذلك بقيود دفترية، وتزوير توقيعات، أو قد يتم الاختلاس عن طريق تحويل جانب من المشتريات أو الممتلكات إلى ملكية خاصة، بالإضافة إلى ما سبق، فقد يتم الاختلاس في صورة مبالغة بعض الموظفين في تحديد مصاريف الإقامة والانتقالات في المهام والسفريات، بجانب استغلال البعض الهاتف والبريد والسيارات والأدوات المكتبية الحكومية لأغراض شخصية بحتة. وقال د.المشيقح: من المؤسف جداً أننا نسمع اتصالات كثيرة عبر البرامج المسموعة والمرئية لأشخاص يستفتون بعض المشايخ حول الرشوة، هل هي حرام أم حلال، وعن إمكانية دفع الرشوة لمن قام بتعطيل مصالحهم أو معاملاتهم في بعض القطاعات الحكومية، وهذا ما يؤكد تفشي ظاهرة أخذ وطلب الرشوة، والتي تمثل إحدى جرائم الفساد الإداري المجهولة، لأنها تتم عبر وسطاء وتتم بالظلام، ولا يوجد آلية مؤسسية تحارب هذا الفساد، وبالتالي صعوبة اكتشافها". وقد أجمع المشاركون بالندوة على أهمية الوازع الديني في محاربة الفساد، وأن الإسلام منهج حياة لم يغفل مكافحة الفساد والانحراف في المعاملات والحقوق العامة والخاصة، فقد قال المولى عز وجل "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، وقال "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، فالوازع الديني أساس متين ينبغي أن يكون رادعاً لجميع ممارسات الفساد، ولكن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، من أجل ذلك سن الأنظمة التي تحفظ للناس حقوقهم وتحد من هوى النفس. القوائم المالية وقال الدكتور أحمد بأننا حين نتحدث عن القوائم المالية ومدى تأثير الفساد الإداري عليها، فإننا نتحدث عن مفهوم مالي أساسي، وهو الإفصاح والشفافية والنزاهة في التقارير المحاسبية المقدمة للمستثمر والمتاحة لطالب المعلومة، والإفصاح الذي ننشده في جميع القوائم المالية والتقارير المحاسبية هو أن يتم إيصال المعلومات والبيانات إلى جميع المتعاملين والمهتمين في نفس الوقت، ولا يقتصر وصولها والاستفادة منها إلى فئات مختارة من الناس دون أخرى، كما أن الشفافية التي نتمنى ممارستها في المملكة هي أن تصل المعلومة كاملة لجميع المستثمرين، ومن الأنظمة المتوافقة مع النزاهة والشفافية نظام "حوكمة" الشركات الذي لم يطبق بعد ولا نعرف كيف ومتى سيطبق؟. وأكد الدكتور إبراهيم المشيقح على أن خلق ثقافة الوعي العام، التي ترتكز على الوضوح وترسيخ وتعزيز مبدأ الشفافية على أرض الواقع، أصبح مطلباً حضارياً وإنسانياً للقضاء على الفساد ولخدمة الأهداف التنموية وتعزيز الثقة بالتعامل، وقد أكدت الدولة دائماً على مبدأ الشفافية، والتي تبنتها منظمة الشفافية العالمية التي أنشأت عام 1993م، وتعتبر إحدى المنظمات غير الحكومية وتضم 90 دولة، وأهم ما صدر عن هذه المنظمة ثلاثة مؤشرات، وهي مؤشر مدركات الفساد، والتقرير العالمي عن الفساد، ومؤشر دفع الرشوة والتي تعتمد على جمعية " جالوب ". تفعيل الإستراتيجية ويقول د.الشميمري بأن الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد صدرت في أوائل عام 1428ه، وسيمضي عليها ثلاثة سنوات بعد أشهر قليلة، وهي بلا شك خطوة إيجابية سليمة في مجال مكافحة الفساد، لكن النظام وحده لن يحقق تقدماً كبيراً، ويبقى التقدم الفعلي القائم على الخطط والهيئات المتخصصة والآليات التنفيذية الواضحة لتعزيز تطبيق هذه الإستراتيجية بشكل مجد، وفي ظني أن دور مؤسسات المجتمع المدني المستقلة سيكون كبيراً وجوهرياً لو بدأت إحدى تلك المؤسسات برفع هذا اللواء، والعمل على إنجاحه رفعة للوطن وخدمة لمواطنيه. كما يضيف الدكتور إبراهيم بأن الإستراتيجية الوطنية من الصعب أن تكون وحدها كافية لردع تلك المظاهر المتنامية من الفساد الإداري والمالي، ولكن هذه الإستراتيجية مهمة جداً لمساندة الجهود والنظم الأخرى، وسوف تكون فاعلة إذا وجدت التطبيق الصارم. أما الدكتور يوسف الرميح، فقال: "من الأفضل أن يتم وضع هذه الإستراتيجية على أرض الواقع لمدة سنة أو سنتين، لاختبارها خلال هذه المدة، من أجل أن نتمكن من معالجة النقص الموجود فيها، وقد يكون الخلل أحياناً ليس في الإستراتيجية بقدر ما هو في التطبيق والمتابعة والتفعيل". كما أكد الدكتور فيصل الخميس بأنه إلى جانب تفعيل الإستراتيجية فإنه لابد من فتح خطوط ساخنة للإبلاغ عن حالات الفساد الإداري والمالي، وتسهيل كافة الإجراءات لتمكين المواطن والمقيم من الإبلاغ عن حالات الفساد، وكذلك إعادة النظر بالأنظمة واللوائح وسرعة إصدار الأحكام القضائية وتفعيل دور الأجهزة الرقابية. التوصيات : • ضرورة تنفيذ الإستراتيجية بآلياتها وقياس فاعليتها ونتائجها وتقويمها • تفعيل دور المؤسسات ذات الصلة بالمراقبة والنزاهة • إنشاء هيئة مستقلة تعنى بالفساد المالي للقطاعين العام والخاص • وضع لوائح وأنظمة فاعلة لتقويم أداء المؤسسات الحكومية لمكافحة الفساد المالي والإداري • تحفيز موظفي الجمارك والحدود والمراقبة لمنع تهريب الأسلحة والمخدرات • ضرورة وضع المناهج التربوية والثقافية التي تربي الفرد على القيم السامية • غرس الولاء والانتماء لدى الناشئة وتعزيز مفهوم النزاهة وتنمية الحس الديني