لي في الرياض رياضان. المدينة والجريدة.. أعرفهما منذ أن بلغت السادسة عشرة من عمري. في الأولى اكتشفت معنى العاصمة، أو المدينة الأم، وفي الثانية كتبت أولى قصائدي عن «أيلول الأسود» ودخلت يومها في براثن الدم العربي الذي لا يزال رخيصاً إلى «صعدة». كبرت الرياض العاصمة، وكبرت الرياض الجريدة. وظلت هاتان الرياضان مفتاحيْ دخولي إلى الوطن. قبل أيام كنت فيهما. أحتمي بهما. كان الذهاب إلى الجريدة سفراً طويلاً بين الحر والغبار والزحام وهذه كلها نتجاوزها ونتحملها بحب الرياضين. لكن ما لا يمكن قبوله هو غياب أخلاقيات المرور لدى السائقين. لا أحد يحب أحداً أو يحترمه أو يرأف به. وكأنهم في حالة هروب من موت محتوم. تتساءل ما الذي هوى بالناس إلى هذه الحالة من التردي، من الجهل، من العدوانية، من اللامبالاة لا بحياتهم ولا بحياة الآخرين. ثحيح أن الحياة في المدن الكبيرة تتطلب الكثير من التضحيات، وأن فيها الكثير من المضايقات في كل مكان. لكن ما يحدث في الرياض «لأني أحب الرياض» لا مثيل له. ولا أدري كيف يحتمل الأصدقاء من «المثقفين والمبدعين» هذه المعمعة. كان السفر إلى الجريدة أكثر من سفر طويل، إنه مغامرة محفوفة بالمخاطر في كل ثانية. تتأنى في القيادة، فيرفعون أصواتهم وأصوات سياراتهم، ويصل ببعضهم الأمر إلى تهديدك بسيارته، وتسرع فتجد من هو أسرع منك، من يتجاوزك من كل حدب وصوب. وتعبير حدب وصوب لا يمكن فهمه إلا في شوارع الرياض الواسعة التي أريد لها أن تكون من أوسع الشوارع والطرق في عواصم العالم. لكن هذا الاتساع أعطى فرصة للمتخلفين والمجانين من بعض سائقي السيارات للتعبير عن تخلفهم وجنونهم إلى درجة لا يحتملها بشر. تريد أن تخرج، تلزم أقصى اليمين، فيأتيك أحدهم من أقصى اليمين ليخرج قبلك أو ليدخل في الخط الرئيسي، أو يأتيك أحدهم في أقصى سرعته من أقصى اليسار ليخرج قبلك. تخرج قبل أن تخرج الروح. وتحمد الله، لكنك لم تصل بعد إلى بيتك. تحاول أن تستعيد السيطرة على يديك وقدميك ورأسك وعينيك وأن تقود سيارتك بهدوء، وإذ بأحدهم يسير أمامك متردداً، لا يدري إن كان سيتجه إلى الأمام أم إلى اليمين. في تردده تتجه يميناً في الطريق إلى البيت لكنه في نفس اللحظة ينحرف يميناً قبلك ومعك وبعدك. تقول له بهدوء بعد أن تلافيت حادثاً مؤكداً «ليش يا أخي» يسألك ببرود : ماتشوف؟ تصل إلى البيت «بسلام»، ثم تنسى أنك لم تشتر وجبة للغداء. تكتفي بقطعة خبز وجبن وتنتظر الفرج. وتحمد الله على السلامة. وتعد الأصدقاء الذين لم ترهم برسالة اعتذار عندما تعود إلى باريس.