إن التأمل البسيط في الواقع العربي المعاصر، يوصلنا إلى نتيجة مؤسفة، يعاني منها واقعنا العربي.. وهذه النتيجة المؤسفة ليست من جراء ضغوطات أعدائنا التاريخيين، أو مؤامراته الهادفة إلى مسخ ثقافتنا الذاتية، وإحلال الثقافة الغربية محلها.. وإنما هي نتيجة منبثقة من داخل الواقع العربي المعاصر .. وهذا الخلل العميق الذي يعانيه الواقع العربي، ويلقي بظله الثقيل على العالم العربي، هو داء العنف والإرهاب والتعصب والقتل الفردي والجماعي .. فلا زالت الصومال تعاني من هذا المرض الخطير، وتعيش في أتون دائرته وتداعياته الجهنمية.. واليمن السعيد لا زال يعاني من العنف، ويعيش تداعياته الداخلية والخارجية.. وما يجري في هذا البلد العريق يدمي القلب والعين معا ، ويدخله في أتون احتمالات وسيناريوهات كارثية.. وهكذا العديد من بلدان العالم العربي، حيث هذا الداء الخطير يستفحل ويعرض المكاسب الوطنية والاجتماعية للخطر الشديد.. ولا ريب أن إلقاء القبض على (44) شخصا من المتهمين بالانتماء إلى القاعدة وممارسة الإرهاب في المملكة، والمحاولة الآثمة والجبانة التي تعرض إليها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية وهو الذي يبذل جهوداً متميزة في محاربة الإرهاب والإرهابيين، وهو امتداد لهذا الداء، ونحن نستنكر مثل هذه الأعمال وندينها ونتطلع إلى مشروع وطني متكامل لاجتثاث الإرهاب من جذوره ، ومحاربة كل أسبابه وموجباته.. وهذه الأعمال الإجرامية غريبة عن مجتمعنا وتقاليده ، وتعرض أمننا ومكاسبنا جميعا للخطر والتهديد.. وكما يبدو أن القاسم المشترك في بواعث استشراء هذا الداء الخطير، هو التعصب، وكأن همنا الأساسي هو البحث عن عدو نحاربه، ونبرز ترسانتنا الفكرية تجاهه.. والتعصب هنا لا يعني الرفض العلمي الرصين لقناعات الآخرين وتصوراتهم الفكرية والسياسية.. إنما هو على حد تعبير (صاحب كتاب هوامش على دفتر التنوير) حالة معرفية تنطوي فيها الذات على ما أدركته ، وترفض أن ترى سواه ، أو تمنح غيره حق الوجود فوجود ما تؤمن به هذه الذات دون مراجعة أشبه بوجودها نفسه، وضع من الاكتفاء الذاتي الذي يستغني عن كل ما عداه، ولا يتقبل أي مغاير له، وبقدر ما تنطوي الذات على إيمان مطلق بما تراه.. في هذه الحالة المعرفية، فإن إيمانها به يتضمن معنى الإطلاق الذي ينفي نسبية المعرفة وإمكان الخطأ.. فالمعرفة التي تنطوي عليها هذه الذات معرفة اليقين الذي لا يقبل الخطأ أو يعترف به، والاكتفاء الذي لا يتصور الزيادة أو يقرها، والتصديق الذي لا يقبل السؤال أو يسمح له بالوجود ، والجزم الذي يرفض الشك ويرى فيه مظهرا للنقص.. إننا نرى في هذه الحالة المعرفية، أرضا خصبة لنمو ظاهرة العنف والإرهاب .. لأنها حالة معرفية، إطلاقية، ثبوتية، وحيدة الاتجاه، لا تعرف الحوار والسؤال والجدل بالتي هي أحسن.. وحضورها الذاتي مكتف بنفسه، بعيدا عن حضرة الآخر الذي لا يسهم في وجودها، ولا يملك سوى أن يتقبلها تقبل السلب.. ونظرة فاحصة واحدة، إلى الكثير من بلدان العالم العربي، التي تعاني من داء العنف والإرهاب ، نرى أن هذه الحالة المعرفية، هي التي تغذي وجودات العنف ، وتبرر لهم أعمالهم الإرهابية.. من هنا نرى ضرورة نشر ثقافة التسامح في العالم العربي والجدال بالتي هي أحسن وكل متطلبات العيش الإنساني المشترك.. وفي وطننا بالذات تتأكد هذه الحاجة، وتبرز أهمية العمل المكثف لتفكيك كل حواضن الإرهاب، وتعزيز قيم الحوار والتسامح والقبول بالآخر في فضائنا العام.. وإن التسامح كعقلية وأخلاق وأنماط اجتماعية مناقض جذريا لنمط التعصب والحالات المعرفية التي لا ترى إلا ذاتها.. فهو نمط يتسع للرأي الآخر، ويؤمن بحق الاختلاف ونسبية المعرفة والحقيقة، ويتحاور مع قناعات الآخرين بدون مواقف مسبقة وأحكام إطلاقية كاسحة.. لهذا فإن التسامح والجدال بالتي هي أحسن ، من الشروط الأساسية لنمو الفكر ونمو الحوار والجدل العقلي، الذي يؤدي إلى نضج الأفكار، وتبلور القناعات والتصورات العامة.. وثمة حقيقة مهمة في هذا المجال وهي : كلما تطورت الحياة المدنية للجماعة البشرية، اقتربت من مفهوم التسامح والجدل بالتي هي أحسن .. أما الجماعة البشرية التي ما زالت تعيش وضعا مدنيا متأخرا، دائما العصبية والعنف هما اللغة السائدة في علائقها المجتمعية.. لهذا فإن التسامح ليس صفة أخلاقية فحسب.. بل هو مرحلة حضارية ومدنية نبلغها كجماعة بشرية ، حينما نتجاوز موروث التخلف والانحطاط الحضاري.. وهذا يذكرنا ( على حسب غليون ) بوضع العرب في الجاهلية.. لقد كانت نزاعاتهم الداخلية وتناقضاتهم الذاتية التعبير المباشر عن هامشيتهم الحضارية ، وغيابهم عن فعل التاريخ العالمي.. لهذا فإن العالم العربي بحاجة إلى تلك العقلية والثقافة، التي تمتص هذه التناقضات، وإعادة توجيه الطاقة الحية التي تزخر بها شعوب العالم العربي في طريق التاريخ الإنساني. إن العالم العربي ، بحاجة أن يخرج من حالة المراوحة حول الذات وشؤونها الخاصة، والانطلاق بعزم جديد ورؤية جديدة للفعل التاريخي الذي يعود على أوضاعنا وأوضاع العالم بكل خير وفائدة .. والتسامح لا يتحقق على المستوى العملي، إلا بتنمية الشعور والوجدان، بوحدة الوطن والمواطنين.. وإن أي عمل يتجه إلى الإضرار بالوطن حاضرا ومستقبلا ، هو في حقيقة الأمر إضرار بالمواطنين.. لأننا لا نتصور وطنا بلا مواطنين .. لهذا تنبع ضرورة الإعلاء من شأن تلك الأخلاقية، التي تدفع باتجاه العيش المشترك، ونبذ العنف والإرهاب .. واختيار الأساليب المناسبة لعلاجها.. حتى يخرج عالمنا العربي من هذه الدوامة، ويشارك بفعالية مع العوالم الأخرى في صناعة التاريخ الإنساني.. وإن ظاهرة العنف كغيرها من الظواهر المعقدة والمركبة ، التي تحتاج إلى دراسة عميقة لأسبابها ، ليس من أجل الترف الفكري أو الأكاديمي ، وإنما من أجل اختيار الأساليب الناجعة لعلاج هذه الظاهرة.. وإن هذه المسألة ليست مسؤولية الدولة وحدها، وإنما مسؤولية المواطنين جميعا.. إذ ينبغي أن يتحمل كل مواطن مسؤوليته تجاه هذه الظاهرة الخطيرة.. فكل مواطن ومن خندقه الوطني ( وظيفة رسمية أو أهلية – إدارية – أعمال حرة أو ما أشبه ) يقوم بدوره في هذا السبيل.. وبهذا تشترك كل الجهود، لإنهاء هذه الظاهرة والحد من تأثيرها .. وحتى يبقى مجتمعنا ووطننا سليما من هذه الأمراض، التي لا تهدد مكاسب الحاضر فقط، بل وتهدد مكاسب المستقبل وأجياله..