أُغرمت في سن المراهقة بالكتب والروايات البوليسية وصوت أم كلثوم.. ولكن يشاركني هذا الهوس ابن شيخ جليل في المدينة (أتحفظ على ذكر اسمه خوفاً من توبيخ والده بأثر رجعي).. وذات يوم كنا نتسكع في حينا الجديد حين صادفنا أم كلثوم تسير أمامنا (بشحمها ولحمها).. وأذكر أننا توقفنا من هول المفاجأة ثم بدأنا نسير خلفها خلسة لنعرف أين تسكن.. وكانت المفاجأة أكبر حين اكتشفنا أنها تسكن في المنزل الملاصق لمنزل صديقي خالد (هل ذكرت اسمه للتو!؟) الذي قال: «الآن فقط عرفت مصدر الغناء المنفرد».. فسألته «أي غناء منفرد؟».. فقال: «بين الحين والآخر كنا نسمع من نافذة المطبخ أغاني أم كلثوم بلا موسيقى؛ والآن أدركت أنها كانت تغني بنفسها أثناء غسلها الصحون».. وهكذا بدأنا نقنع أنفسنا بأنها صاحبة الصوت الحقيقي للأطلال ورباعيات الخيام وحديث الروح.. ورغم أنها توفيت - قبل رؤيتها في الحارة - بسبع سنوات إلا أن فارقا كهذا لم يكن ليشكل معضلة أمام مراهقين أدمنا الروايات البوليسية.. فبكل بساطة افترضنا أنها «تابت» من مهنة الطرب وزورت حادثة وفاتها في مصر لتستقر قرب المسجد النبوي في المدينة!! واقتضى الأمر وقتاً طويلاً قبل أن ندرك أنها مجرد سيدة عادية تشبه أم كلثوم الحقيقية في شكلها وصوتها وجنسيتها - بل وحتى نظارتها السوداء!! ومن يومها أصبحت أفهم كيف يرفض الإنسان - وربما المجتمع بأكمله - التصديق بوفاة شخصية جذابة أو أسطورة ملأت أفئدة وعقول الناس.. فأول ما يعتري الإنسان - حين يسمع بوفاة أحدهم - شعور بالإنكار وعدم التصديق .. وقد يستمر موقف الإنكار هذا لزمن طويل حتى يتحول إلى قناعة جماعية لا تراعي عامل السن ومرور الأعوام (خصوصاً في حالات الاختفاء أو الوفاة الغامضة).. ففي تراثنا الإسلامي مثلاً ما يزال هناك من يؤمن بعيش الخضر عليه السلام حتى يومنا هذا.. والخضر شخصية غامضة لا تزال موضع جدل وخلاف منذ قرون (حيث أنكر وجوده البعض في حين ادعى البعض الآخر أنه ابن لآدم وهبه الله الخلد/ فيما رجح آخرون أنه نبي صالح انتهت رفقته مع موسى بقوله (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا)!! أيضاً هناك شخصية المهدي المنتظر (ابن الحسن العسكري) الذي يعتقد الشيعة أنه اختفى في طفولته في كهف بسامراء عام 256ه وهو عندهم في حالة خلود وغيبة وينتظرون عودته ليملأ الدنيا عدلاً ونوراً!! ... أيضاً لا ننسى عيسى عليه السلام والذي رُفع - وما يزال حياً في السماء - وينتظر المسلمون والمسيحيون عودته إلى الأرض قبل قيام الساعة.. ومثل هذه الشخصيات العظيمة تأبى الذاكرة الجماعية وفاتها بطريقة طبيعية - وبالتالي - قد تنسج حول بقائها فرضيات كثيرة.. ومثل هذه الرغبة اللاواعية ظاهرة يمكن رصدها - حتى يومنا هذا - في ثقافات عالمية كثيرة... ففي ألمانيا مثلاً يؤمن الكثيرون بنجاة أدولف هتلر (من اقتحام برلين) وهربه إلى الأرجنتين وعيشه فيها حتى الآن.. أما في أمريكا فيعتقد عشاق الروك أن الفيس بروسلي زور وفاته وانتقل للعيش في ألاسكا بعيداً عن أعين الفضوليين.. أما هواة المغامرات فيؤمنون بأن إميليا إيرهارت (التي اختفت أثناء قيادة طائرتها حول العالم) مازالت تعيش وحيدة فوق إحدى الجزر المجهولة في المحيط الهادي.. وقس على هذا الكثير!! ورغم أنني لست في موضع الحكم على اعتقادات الآخرين؛ إلا أنني بطبيعة الحال لم أعد أصدق بإمكانية بقاء أحدهم لمجرد عامل العظمة والشهرة وسطوة الكاريزما - خصوصاً بعد الموقف السابق ... ولمن لا يزال يعتقد بوجود الخضر أو عيش المهدي - أو خلود أي اسم كان - فعليه مراجعة قناعاته في ظل قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون)!