الحرص على صحة استعمال اللغة العربية مطلب لكل عربي متعلم مثقف ومدرك لأبعاد جودة وأهمية لغته منذ القدم وحتى اليوم، والدعوة المستمرة والدائمة إلى أن تكون لغة التعليم، ولغة التخاطب والحوار في المدارس والجامعات، والإعلام وجميع أمور حياتنا لغة فصيحة سليمة.. بمفهوم الفصاحة الحقيقية التي يشترط لها صحة الكلمات لغوياً، وسلاستها نطقاً، ووضوح معانيها فهماً. *** في بعض المدارس الحكومية والأهلية في بلادنا جهود كبيرة مشكورة من بعض المديرين الغيورين على سلامة استعمال لغتنا بين المعلمين والطلاب، بل وجميع العاملين في المدرسة لأنها ذاتنا، وهويتنا، ولسان عبادتنا. وأنا أشارك أصحاب هذه الجهود، وأدعم عملهم، وأبارك فعلهم. *** ومنذ أيام زارني أحد إخواني الذين أوصيت بهم أن يشرفوا على بعض المدارس وتدريب المعلمين لتحقيق هذه الغاية السامية وقال: إن بعض من قابلتهم في محيط المدارس يرون في هذه الدعوة المستمرة للتمسك بالفصحى تقعراً وتنطعاً لا معنى له، ولا وجوب للدعوة إليه؛ محتجين بأن اللغة وسيلة لإيصال المعلومة.. فمتى أدت - أياً كان حالها - ذلك بأية صورة لغوية فهي اللغة الأنسب. *** وواصل زائري قائلاً: وفي المقابل هناك بعض المعلمين الذين لا يرضون إلا باستعمال لغة متقعرة وألفاظ غريبة، وتشدد عجيب مرهق، وضرب لي مثلاً بذلك حين نَهر المعلم طالبه حين قال الطالب خذ (المسَّاحة) لأن الصواب عند ذلك المعلم هو (الممحاة). إنه من شدة تقعره واستخدامه قديم الألفاظ وغريب الكلمات أنه يرفض كلمة (بيالة) ويقول الصواب (كأس صغير له مقبض)، مع أن كلمة بيالة هي مفردة فارسية، فإن اللغة العربية مرنة في تعريب كثير من الكلمات والمصطلحات، وفي القرآن الكريم كثير من مفردات اللغات الأجنبية، ومثل هذا التشدد والتنطع كثير نسمعه في خطب الجمعة وغيرها ممن يظنون أن هذا التقعر هو دليل التمكن والفصاحة. *** إن الفصاحة غير ما يرون.. إذ هي تعني سهولة النطق، وعدم تنافر الحروف، ومطابقتها لقواعد اللغة، وعدم غرابتها ووحشيتها.. وهنا تحضرني أبيات جميلة لصفي الدين الحلي يقول فيها: إنما الحيزبون والدردبيس والطخا والنقاخ والعلطبيس لغة تنفر المسامع منها حين تروى وتشمئز النفوس أين قولي هذا كثيب قديم ومقالتي عقنقل قدموس خل للأصمعي جوب الفيافي في نشاف تجف فيه الرؤوس إنما هذه القلوب حديد ولذيذ الألفاظ مغناطيس ومعلوم أن الحيزبون تعني: العجوز. والدردبيس تعني: العجوز الفانية. والطخا تعني: السحاب والنقاخ (على وزن غراب): الماء البارد الصافي. والعلطبيس = الأملس البراق. والعقنقل = كثيب من الرمل. قدموس = قديم. النشاف = الحجارة السوداء. ومثل ذلك مما يجيء ما هو إلا برهان على أن البدائل التي هي معاني هذه الكلمات وأمثالها أيسر فهماً، بل أجمل نطقاً - فلنأخذ - أيهما أفضل وأيسر: أن تقول (النُّقَاخ) أو أن تقول (الماء البارد العذب الصافي). *** ويحضرني في هذا المقام العمل اللغوي الكبير (فقه اللغة للثعالبي) الذي أورد لبعض المعاني كلمات قد تصل إلى خمسين كلمة.. (الليث - الغضنفر - الهزبر..). لكن أكثرها شيوعاً وأيسرها فهماً هو كلمة الأسد. وهكذا في كل ألفاظ لغتنا المستعملة، ولا ننسى أن الألفاظ تحيا وتستعمل في عصر لكنها تهرم ثم تموت ويتوقف العمل بها في عصر آخر. ومن فصاحة اللغة تناسب ألفاظها مع عصر استعمالها، ومن فصاحة الخطيب والداعية، والمعلم، والأستاذ الجامعي مراعاة مستوى ثقافة السامعين دون النزول عن شروط الفصحى والالتزام بها فلكل مقام مقال يناسبه. *** لقد تبين لي على سبيل المثال أن كثيراً ممن لغتهم الإنجليزية هي اللغة الأم لا يعرفون معاني الكثير من الألفاظ التي جاءت في روايات الروائي الإنجليزي الشهير شكسبير. وهذا لا ينفي أن ما ورد من هذه الألفاظ التي لم يفهم المعاصرون معانيها أنها ألفاظ إنجليزية فصيحة.. ومثل هذا في لغتنا العربية. *** ومن أجل المحافظة على اللغة العربية الفصحى دون إخلال بأصولها فقد وفقني الله حين كنت في وزارة التربية والتعليم إلى تبني مشروع معجمين لغويين باسم (المعجم المدرسي) بالتعاون مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية الذي يسد حاجة ماسة لأبناء اللغة العربية عامة حين ينتهي العمل منه قريباً - بإذن الله -، وهو مكون من جزأين، أحدهما لطلاب المرحلة الابتدائية، والثاني لطلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية، ويضم كل واحد من هذين المعجمين ألفاظاً ومفردات عربية فصحى ميسرة. مأخوذة من بيئة الطالب نفسه (المقررات المدرسية، الصحف والمجلات، الإذاعة والتلفاز، كتابات الطلاب والطالبات وأحاديثهم.. إلخ). والمأمول من هذا المعجم بجزأيه أن يكون ثروة لغوية لأبناء المملكة بل لأبناء العربية حيث كانوا. *** إن المتأمل في بعض الألفاظ العامية الشائعة الاستعمال بيننا الآن يجد لها بدائل فصيحة غير متقعرة، ووقعها مقبول، ولا أريد الإطالة في مثل هذا الأمر.. فهو معروف حتماً، وإنما جُلُّ ما أقوله: إن ما ندعو إليه من استخدام اللغة العربية الفصحى لا يعني بأي حال من الأحوال التقعر المكروه المستغلق فهماً، والمنفر ذوقاً لعصرنا.. ولا يعني اللجوء إلى المفردات العامية الشائعة المبتذلة. *** إني لشديد التعجب من بعض الذين يتندرون بالمتحدثين بالفصحى، وينسبون إليهم مقولات ليست صحيحة.. كما أني أشمئز ممن يلصقون تعبيرات متقعرة وينسبونها إلى المجامع اللغوية، وهي من ذلك براء، ألم نسمعهم يقولون إن مجمع اللغة العربية اختار (شاطر ومشطور وبينهما طازج) ليدل على ما شاع (ساندوتش)، ومثل ذلك كثير - مجامع اللغة العربية وعلماؤها من كل ذلك براء. *** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.