.. اسمحوا لي أن أحكي لكم حلماً راودني.... كنت ولازلت أراه فيما يراه النائم..... يترددُ عليّ بالليل..... وقرب الفجر..... ومع تباشير الصباح وساعات الذروة من النهار.... ولتكراره غداً هاجسي في الصحو واليقظة.... حتى حسبته رؤية وبشرى من الرحمن فقلتُ خيراً... اللهم اجعله خير! رأيت في الحلمُ نماذج عديدة من النساء يتأرجحن فوق كراسي وثيرة تتمايل بهن ذات اليمين وذات الشمال... تغلب عليهن سمةُ الترهل والبدانة وبعضُ المزاجية والأهواء.... وضيق الأفق! تكاد أن تنعدم البسمة في وجوههن! يرتدين نظاراتٍ سميكة تساعدهن على رؤية وتنميق ما بين أيديهن من سجلاتٍ متراكمة الزمن.. قديمة العهد! بينما البعض الآخر يحاول البحث عن نظاراتٍ أخرى ومن نوع آخر تقرب لهن رؤية البعيد!!. سألتُ: من هؤلاء؟! قيل لي: هن مديرات مدارس غالبيتهن تقليديات النزعة... أكل عليهن الملل وشربت منهن الرتابة! وقفْن مع أسبابٍ أخرى عديدة بمدارسِ البنات عند حدودٍ معينة فتراجع التعليم سنواتٍ طويلة....! همهنَّ الأوحد تسييرُ أمور المدرسة فقط بلا مبادرة أو تطوير!! وأغلبُ الظن أتهن منفذات لحرفية التعاميم بلامرونةٍ أوفهم واضح لما بين السطور...! ثم رأيت أخريات من هنا وهناك.... كلٌ واحدة كانت تدير ظهرها للأخرى وكأنها تعمل منفردة في مكانٍ متعزل بأسوارٍ عالية تغطُّ في سباتِ الروتين والهوامش.... غافلة عن حركة التعليم المتغيرة... وأهداف التربية المطورة التي تؤكد على أهمية نشر ثقافة التميز الإنساني في بئيةٍ متميزة عبر البوابة الأولى لكلِّ مجتمع راق ألا وهي (المدرسة)! تلك النماذج رأيتُ بعضها يديرُ أوراقاً باهتمامٍ شديد في مكاتبها وعلى كراسيها المريحة بتثاؤب...! توثق التفاصيل بدقةٍ عقيمة فيها الكثير من مضيعة الوقت والجهد ولا يمكن لمنطق العاقل أن يستوعبها!! كلُّ ذلك حرصاً على مركزيتها الوثيرة...! وكأن الشأن الحقيقي لإدراتها بالمدرسة هو الورق لا البشر! أخرى رأيتها تمارسُ أنماطاً من السلوك وتستخدم ألفاظاً لا تمتُ للتربيةٍ بصلة.. لتثبت فقط قوتها الجسدية ومقدرتها الظهورية على الضبط!! فلم تترك بصمةً فيمن حولها سوى الإحباط والشعور بالدونية أمام ثقل هيكلها ّ لكثرة ما يصدر عنها من التنبيه والتأنيب وتصيد الأخطاء... والنقر على توافهِ الأمور!!. متناسيةً ما يسمى بالحوافز والتشجيع! غير مبالية بالمواضيع الكبيرة والمهام العظيمة المفروضة على مقعدها المسئول! شعرتُ بكابوسٍ يجثم على صدري وأنا أفكر بابنتي وغيرها من الطالبات في مثل تلك المدارس وتحت وطأة تلك النماذج الإدارية المقفلة والتي لا ترى في الطالبة سوى مخالفاتِ بكلتها وشريطتها وأظافرها فقط! وتسمحُ بالتعامل معها بإهانةٍ وعدم احترامٍ لشخصها وشخصيتها!! تمنيتُ بتفاؤلٍ واضح أني رأيتُ في حلمي بدلاً منهن نماذج أخرى تتسلقُ الأشجار كطرزان الغابة لتختصر المسافات البعيدة وتصل إلى ثمر الموز الناضج بذكائها... وخفتها... وحركتها الدائبة...؛ كنت أصحو من نومي في عجبٍ وضيقٍ مما أرى في حلمي..!! أحاولُ أن أستبعد وأنسى تلك التفاصيل علّنى أستبقي في ذاكرتي وتطلعي تلك الصورة الحالمة الجميلة لتلك الإنسانة الرائعة المظهر والمكنون..! المتجددة في معطياتها...! المحترمة في أسلوبها...! رأيتها ومثيلاتها في زوايا الحلم وهي تدور في جمعٍ كريم ضم طالبات مدرستها وموظفاتها... تملك أمامهن الآداء المتميز والثقة والمرونة... والمزايا العلمية والثقافية... تُشعر من حولها بقيمة عمل الفريق... تتقاسم معهن الأفكار والرؤى والمسئولية بصوتٍ مسموع.. تطبق أفكارها الإدارية بكل فهمٍ ومسئولية...! تُشرك جمعها في الإنجازات والنجاحات الياهرة... تقول لهن:... إن التعلم بالمدارس ليس مجرد نشاط استهلاكي... يحقق الشعور بالرفاه والرضا والمنفعة! وإنما هو رؤية ومخزون إنتاجي يضم منظومة حية من كائناتٍ بشرية متعلمة توفر الخدمات للبلاد في الحاضر والمستقبل... وتحقق للأفراد التربية الذاتية الرفيعة والقدرة المتمكنة على الإشتغال وكسب الرزق... وممارسة المهام الأسرية... مما يزيد من قيمةِ رأسِ المالِ البشرى... ويسهمُ بصورة أساسية في قوة الإقتصاد والرفاة الإجتماعي من خلال إكساب المتعلمات بالمدارس التأهيل والمهارة والخبرة والتي تتمثل في تربيتهن وصحتهن وعقولهن مشاركات في التنمية وزيادة الدخل القومي.. مع غرسِ الرضا والولاء في نفوسهن!. رأيتها في حلمتي إنسانةً أخرى وفرساً من شكلِ آخر... كانت وغيرها نماذج مشرفة غير تقليدية... سألتها: من أنتِ؟!.. أجابتُ: أنا ابنةُ الوطن الغالي أدير مدرستي من خلال خططٍ عامة وتفصيلية ولجانٍ مختلفة لأصل إلى النموذجية المهنية المطلوبة في الإدارة! أنتِ إذن مديرة مدرسة!... إنه مسمى فقط يا سيدتي، وإنما عملي الحقيقي يتجسد من خلال منظوري الذي أشعر به... مما يدفعني لممارسة أساليب إدارية متعددة ضمن فريق متكامل بالمدرسة وليس وحدي! يحفزني وأحفزه كل يوم لمزيد من النجاح بتهيئة الفرص للتجديد والنمو، حتى يقبلُ الجميع على المدرسة بحبٍ وتقدير بالترغيب لا الترهيب وبالحوار لا القمع!.. وهذا هو التحدى الماثل للدور الحقيقي لمديرة المدرسة والذي تتوقعه منا القيادات العليا في التربية والتعليم!. رأيتُ مدرستها في الحلم تتحدث عن إدارتها بكل ما أوتيت من الصلاحيات وأبعاد النفع العام... تحقق من خلال عضويتها (بمجلس الحي) هي ومديراتُ مدارسٍ أخرى التواصل الإيجابي المباشر مع تبادل الخبرات والتجارب الناجحة... ثم اختصار الطريق للتواصل عبر المجلس مع الإدارات الأعلى... كانت تحدثني من خلال الميدان الفعلي للمنظومة التربوية والتعليمية التي تديرها...! قالت: يا سيدتي إن التغير للأفضل قد يحتاجُ أحياناً إلى المغامرة! والعبرة بالنتائج..! سألتها: هل تدعمك الإدارة؟! أيُّ إدارة تعنين؟! أعني (إدارة تعليم البنات).. ابتسمت السيدة المرموقة قائلة: نحن نتواصل مباشرة مع نائبة وزير التربية والتعليم عبر مكتب الإشراف التربوي الذي نتبع له... ولو انتظرتُ يا سيدتي هذه الإدارة وبيروقراطيتَها لتخلفت مدرستي عن الركب سنين طوال... ولا مجال للحديث الشائك عن هذه الإدارة... فالوقت ثمين والتحديات أكبر...! لفت انتباهي بعض والأنشطة الرياضية فسألتها: هل تمارسُ الفتيات بمدرستك الألعاب الرياضية؟! ما المانع؟!. وهذه إحدى المغامرات الناجحة التي قمنا بها عن قناعة وعالجنا من خلالها المشاكل الصحية والسمنة وبعض السلوكيات الخاطئة والشغب لدى بعض الطالبات.... بل ربطنا هذا النشاط بدور المقصف المدرسي في تقديم الوجبات الصحية.... والحقيقة أن إدارة رعاية الشباب قامت مشكورة بالتنسيق مع لجنة النشاط المدرسي لدينا بتوفير عددٍ من الألعاب الرياضية.... كطاولة التنس، وكرة الطائرة والسلة وبعض الأجهزة الأخرى... كما قدمت لنا بعض الجهات الأهلية في القطاع الخاص بعضاً من خدمات التشجير والرى...! نوهت المديرة وهي تتجول معي في الفصول والمعامل والقاعات إلى أهمية الرسائل القصيرة التي تبعثها لجنة الإرشاد الطلابي إلى أولياء الأمور عبر تقنية البريد الإلكتروني وحين سألتها: إن كانت تقرأ ما يرد في الصحف عن تعليم البنات؟. أجابت: كان آخر ما قرأت يوم الأربعاء الموافق 24/6/1430ه حول دراسة أجرتها شركة عالمية عن واقع تعليم الإناث في السعودية وأن الدولة أنفقت مبالغ طائلة على التعليم... بينما إنتاجية الإناث لم تزد! ولعل أحد الأسباب الهامة... عدمُ فهم مديرة المدرسة للدور الحقيقي الذي عينت من أجله! وأن عليها البدءُ بتعليم وتثقيف نفسها قبل الآخرين متحلية بمزايا شخصية وإدارية.... مدركة لأهمية الإتصال المستمر بحركة التعليم ومستجداته... مما يجعلها بالتأكيد تسيرُ دوماً في خطوط مترادفة متوازية تحملُ خطواتَها القريبة والبعيدة معاً.... داخل المدرسة وخارجها... لا تتعارض إحداها مع الأخرى... ألم تواجهك صعوبات أو عوائق خلال مسيرتك النموذجية؟!. ياسيدتي: إن منطق اللآصلاحيات ما هو الإحجة من تعجز عن صنع القرار.. وتتقاعس عن الوصول بمدرستها إلى تحقيق طموحاتِ ولاة الأمر حفظهم الله... وهناك مجالات عديدة بالمدرسة... مثل الأنشطة اللاصفية والتي تمنح القدرة على تحقيق ما يعود بالفائدة على الطالبات.... فضلاً عن التواصل مع كل جهة ٍ لها علاقة بالتربية والتعليم.... وأنا أدرك تماماً الهرم الوظيفي الذي لا يمكنني أن أتعداه في الاستئذان أو المشورة.... دوري الحقيقي يا سيدتي بالمدرسة ليس التسلط وإلقاء الأوامر والنواهي جزافاً فهذا أسلوب عقيم.... بل أعرفُ تماماً أين موقع مدرستي مقارنة بمثيلاتها في الدول المتقدمة... لذلك لم أكتف يوماً بأن الأمور تسير على ما يرام فقط! بل كنتُ وغيري نسابقُ الزمن... ونستفيد من تلك الموازنات الهائلة التي تصرفها الدولة على التعليم.... وفي كل صباح كان هناك الجديد والمبهج.. غير غافلين عن ثقافة المكتبة المدرسية... فهي ليست حجرة مصادر للمعلومات فقط! وإنما هي واقعٌ ملموس وحراكُ تعليمي وتربوي في شتى المراحل الدراسية... أهمُّ برامجه وأدواره غرس شعور الوطنية وتحقيق أهداف سلوك المواطنة لدى الطالبات، مع إبراز الإبداعات والفنون المتعددة لديهن... بالطبع الناس ليسوا على شاكلةٍ واحدة يا سيدتي... ولكن أسس التطور ومعايير التقدم لايختلف عليها كلُّ من يعمل بجد وإخلاص وفق الخطط المرسومة للتنمية البشرية... كما أن الرحلات المدرسية تعتبر رافداً آخر للتواصل الاجتماعي والمعرفي والثقافي لا سيما تلك التي نسيرها للحرم الجامعي لطالبات الثانوية العامة.... وأما هيئة الأرصاد والبيئة.... فهي تساعدنا لنكون جزءاً من العالم البيئي المتقدم... وفي مجال البحوث والدراسات فإننا أتحنا الفرصة لبعض الكفاءات المتمكنة علمياً للإلتحاق بالعمل الجامعي وعدم الوقوف عند حدود المدرسة فقط. وهناك بحوث عامة إلزامية تتكرر سنوياً... حول أصول التعامل التربوي مع الطالبات بحسب الخصائص العمرية للمرحلة لاسيما الحالات الخاصة!. سرحتُ في حلمي مع تلك المديرة وهي تواصل الحديث مدعماً بما تطلعني عليه... مسترسلة في عرض مشاريعها وبرامجها الدرسية الخلاّبة... وأنا أقول في نفسي: لعل المتغيرات الجديدة تفرض على كل مديرة مدرسة أن تغادر النمط القديم ليحظى مجتمعنا بجيلٍ يمثل الثروات الحقيقية يحمل في طيّاته التطلعات الكبيرة المتوقعة بمدارس البنات... لاحظت السيدة شرود ذهني فبادرت: نتشرف بدعوتك سيدتي لحضور ندوة برنامج الحوار الوطني بقاعة الأنشطة والذي تستمر فعالياته طوال العام الدراسي بين فترة وأخرى بعنوان (الوسطية والاعتدال وتقبل الآخر ومحاربة الفكر التكفيري المتشدد). أيقنتُ مما رأيت في حلمي ومما سمعت خلال الحوار الذي دار بيننا أن مدرستها جزء حقيقي من الحي الصغير والحارة الصغيرة والمجتمع الكبير تحقق أهدافه بالتواصل مع كافة شرائحه الراقية في جو حميم وتآلف أسرى منضبط المعالم... منظم الخطوات... أفقت من نومي... وفتحتُ عيناي وقد ضاعت مني بعضُ ملامح ذلك الحلم... وحمدت الله لأنها سببت لي الكثير من الإزعاج والأرق... ولم يبق من حلمي ورؤيتي سوى تلك الخطوة الرشيقة التي كانت تنطلقُ بإيجابية وتفاعل... تبدد الظلام بشمعة تحملها بيدها وفكرها وتفانيها.... تخاطب بعين الوعي وقلب المسئولية الروتين البالي والبرستيج الزائف في كرسي رتيب: عذراً أيها الكرسي... إنّ زمن التثاؤب قد انتهى في الفصول والساحات والإدارة بالمدرسة.... وأدركنا أن الموقع الإعرابي لك هو الفاعل الحقيقي لمستقبلٍ مشرق... وهو همزة الوصل بين التخطيط والتنفيذ... لكأنها أدركتْ بعمق أنّ بقية الكراسي الأخرى قد تدور في حلقاتٍ مفرغة حين يتثائب كرسي مديرة المدرسة!. * باحثة تربوية.. كاتبة وشاعرة