هناك تخوفات مشروعة، وخشية واضحة من الانعكاسات السلبية لإشكالات الواقع اليمني ودعوات التمزق على الأمن والاستقرار الإقليمي والقومي، وقد عبر عنها قادة دول مجلس التعاون الخليجي الذين جاءت مواقفهم الرسمية في السياق العام للموقف السعودي في دعم وحدة اليمن ورفض كل التحركات والمحاولات الرامية للمساس بأمنه واستقراره، وهو ما تم التأكيد عليه بشكل مشترك عبر الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبدالرحمن العطية في ختام أعمال القمة الخليجية التشاورية الحادية عشرة بقوله: «نحن مع يمن موحد مستقر ومزدهر، ومع كل ما من شأنه تعزيز أمن اليمن واستقراره والمحافظة على وحدته.. كنا ومازلنا مع أشقائنا في اليمن ونحن حريصون كل الحرص على وحدة اليمن وسيادته واستقراره». تصريحات الزعماء ورجالات الدولة في دول الخليج العربي بشأن الأوضاع في اليمن تعكس حقيقة قلقهم وشعورهم الرفيع بالمسؤولية على مصير اليمن ومستقبل الوحدة، وتعبر عن يقينهم بطبيعة المخاطر والتدخلات الخارجية التي تستهدف اليمن وتحويله إلى قاعدة انطلاق لضرب استقرار وأمن الدول المجاورة له، مجمل هذه التصريحات جاء في الكثير من الحالات نابعا من إلمام أصحابها بمشاكل اليمن المتعددة والمتنامية في حدتها ومخاطرها المحتملة على بلدانهم، وإقرارهم في الوقت ذاته بعدم قدرة اليمنيين على تجاوزها بنجاح من دون دعم خليجي قوي ومباشر في مختلف المجالات.. عندما نلقي نظرة فاحصة على طبيعة التطورات المعتملة حالياً والخاصة بالشأن اليمني، لا يمكن الا أن نرى مؤشرات وممهدات لانعطاف حاسم في العلاقات اليمنية - الخليجية، وارتفاعا لمستوى الشعور بالمسؤولية الرسمية والشعبية عند إخواننا الخليجيين إزاء ما يعتمل في الوطن اليمني باعتباره جزءاً مهماً من أمنهم القومي، وهناك مؤشرات واضحة لإمكانية اتساع نطاق الدعم واستمرار المساندة المعنوية والمادية الخليحية لليمن، وحتى تتحول هذه الممهدات إلى انعطاف حقيقي فهي بحاجة إلى العمل الواقعي بهمة ومثابرة لتطوير وتعزيز ما تختزنه وشائج الاخوة والعقل السياسي والإرادة الحسنة من طاقات هائلة كفيلة بتحويل الحلم إلى حقيقة.. معطيات الخطة الراهنة على الساحة اليمنية ومخاطرها الإقليمية المحتملة، برهنت بوضوح أن مصير السلم والاستقرار والتنمية والتقدم في المنطقة، يرتبط اليوم أكثر من أي وقت مضى بالواقع اليمني الموحد ومستوى استقراره وديناميكية تطوره الاقتصادي والتنموي. إن نجاحنا المشترك «اليمن - الخليج» في مجابهة تحديات الحاضر والمستقبل يتوقف إلى حد كبير على طبيعة قناعاتنا وخياراتنا المشتركة في التعاطي الواقعي والسليم مع حقائق التاريخ والجغرافيا ومعطيات الحاضر وتسريع خطواتنا إلى الأمام في تحويل الأقوال إلى أفعال. مهماز الانطلاقة السليمة لمساعدة اليمن على تجاوز إشكالاته يتمثل في تحديد المصدر الرئيس الذي تتوالد من رحمه كل إشكالات الواقع وتفرعاته الاجتماعية والسياسية والأمنية، هذا المصدر يتمثل في ضعف الوضع الاقتصادي لليمن بكل سماته المتخلفة من فقر مادي ومحدودية الموارد وضعف البنية الإنتاجية والاستثمارية. فاليمن مثل غيره من البلدان العربية والنامية يعاني كثيراً من الاشكالات والتعقيدات البنيوية في مختلف القطاعات الحيوية، وهو بالمقارنة مع إطاره الخليجي لازال فقيراً وموارده محدودة ويعاني الكثير من التخلف في مكونه وعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية وتجمعاته السكانية.. فسكان اليمن يتجاوز عددهم ال22 مليون نسمة، ومعدل نمو سكاني سنوي هو الأعلى في الوطن العربي 3.5٪، هذا النمو السكاني يحتاج إلى نمو اقتصادي سنوي يتجاوز 15٪ ليستوعب الزيادة السكانية، فيما بقيت قدرات البلد التنموية لا تتجاوز 4 - 5٪ سنوياً وبمعدل تضخم يصل إلى 12.5٪. كما أن معدلات البطالة هي الأعلى في المنطقة، وفي الوقت ذاته تتنامى فيه مخرجات التعليم في مختلف المستويات «بلغ عدد خريجي المرحلة الثانوية العام المنصرم (135) ألف طالب وطالبة». اليمن تعتبر من أكثر دول المنطقة استضافة للاجئين الفارين إليها من دول القرن الإفريقي. في العام المنصرم وصلها حوالي (50091) لاجئاً من الصومال وحدها وفي الربع من العام الحالي وصلها أكثر من (19000) لاجئ صومالي. خلال العامين المنصرمين زادت حدة الإشكالات والتحديات الاقتصادية التنموية مع تراجع الإيرادات النفطية التي «تشكل 75٪ من الإجمالي العام للموازنة» بسبب انخفاض الأسعار العالمية وتناقص الكميات المنتجة، مثل هذا الواقع الذي يعاني من الفقر والبطالة لا بد له أن يعاني كثيراً من الإشكالات الاجتماعية والسياسية والأمنية، والأخطر من ذلك أن يصبح قطاع كبير من الشباب عرضة للاستغلال والاستثمار السيئ من قبل بعض القوى التي تجرهم إلى الانحراف والتمرد والإرهاب ، وتوظيفهم بشكل سيئ لخدمة أجندة سياسية غير وطنية ومصالح أنانية ضيقة .. وموقف القيادة اليمنية وأسلوب تعاملها مع القضايا المتراكمة، يكونان نابعين من دقة متناهية في تقدير الإمكانات الذاتية عند اتخاذ القرارات ؛ فالكثير من الرؤى والمعالجات الوطنية لهذه الإشكالات، حتى وإن كانت سليمة وواقعية، إلا أن إمكانات الواقع وقدرات الدولة والمجتمع والموارد الوطنية المتاحة لم تكن كافية لنجاح هذه المعالجات وتحويلها من إطارها النظري إلى واقع عملي، وفيما ظلت موارد الوطن الاقتصادية التنموية تتنامى بوتيرة عددية، لا تتناسب مطلقاً مع حجم الاحتياجات المتنامية للسكان ومع طبيعة الإشكالات والصعوبات التي كانت تتنامى بوتائر هندسية. الدعم الذي تتلقاه اليمن من الأشقاء الخليجيين وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية على شكل هبات ومنح ميسرة ساهم إلى حد كبير في معالجة وتجاوز بعض الإشكالات والصعوبات الملحة، إلا أن هذا الدعم يظل محدوداً إذا ما قورن باحتياجات اليمن أو بالإمكانات المتاحة لهذه الدول، ولم يحقق الآمال والطموحات التي يرجوها اليمنيون من أشقائهم في مساعدة هذا البلد للخروج من واقعه المتردي، لا سيما وأن أسواق العمالة الخليجية ظلت أبوابها مغلقة أمام اليمنيين، وكذلك الأموال الخليجية الضخمة لن تجد طريقها للاستثمار في اليمن.. الفهم الواقعي لأوضاع المنطقة وتحدياتها المعاصرة والمستقبلية يحتم بالضرورة وجود يمن موحد وقوي ومستقر قادر على رفد المنطقة بالمزيد من عوامل الاستقرار والتقدم وليس العكس، وهذا لن يتأتى إلا من خلال مشروع (مرشال خليجي) تنموي استراتيجي شامل ومتكامل يكرس للنهوض بواقع اليمن الاقتصادي التنموي والوصول به إلى المستوى الذي يؤهله اللحاق بركب التطور في الدول المجاورة وتحويله إلى قوة نوعية جديدة مكرسة لخدمة قضايا التطور والأمن والتنمية الإقليمية. المبادرة الخليجية في فتح أسواق العمل أمام العمالة اليمنية المؤهلة تمثل أهم الخطوات الإجرائية السليمة في معالجة إشكالات الواقع اليمني، ويمكن اعتبارها الخطوة الأولى في طريق تنفيذ مشروع (مرشال الخليجي). وما من شك أن اليمن ودول الخليج العربي يقفان اليوم عند عتبة من التحولات الكبيرة تتطلب أقصى قدر من المسؤولية المشتركة المنطلقة من الإدراك العميق لمستجدات المنطقة وتطوراتها وأحداثها التي دخلت مرحلة تتطلب مواقف ورؤى جديدة من قضايا التعاون والتكامل والأمن الإقليمي، فالمنطقة اليوم أمام حقائق ومعطيات جديدة وخطيرة لا يمكن التعاطي معها بمفاهيم وقناعات الماضي، كما لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها؛ لأن عواقب التجاهل وغياب المسؤولية يمكن أن يكونا مستعصيين على التكهن.. كل ما ينبغي توفره هو الإرادة السياسية اللازمة وفهم مسؤولياتنا المتبادلة. * رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية