في مصر القديمة كان الفراعنة يضعون الخبز المتعفن على الجروح المفتوحة ثم يربطونها لعدة أيام بقطعة قماش .. وكانوا يعرفون أنه كلما ارتفعت نسبة العفن على الخبز كلما ساهم ذلك في سرعة الشفاء ومنع مضاعفات الجرح .. وكانت الفكرة ناجحة (وشعبية) لدرجة استعمال العفن لعلاج معظم المشاكل الصحية بما في ذلك مضغه لعلاج الالتهابات الباطنية ! وهذه المعلومة تثير دهشتنا من ثلاثة جوانب رئيسية: · الأول أن عفن الخبز يتضمن بالفعل مضادا مقاوما للأخماج التي تسببها البكتيريا الضارة .. · والثاني أن الأمر اقتضى آلاف السنين حتى يكتشف الطبيب الاسكتلندي الكسندر فلمنج هذه الحقيقة (التي ترتب عليها تحضير البنسيلين كأول مضاد حيوي في التاريخ) .. · أما الثالث فهو أن اكتشاف البنسلين مجرد نموذج لإنجازات علمية وطبية كثيرة أعيد اكتشافها في عصرنا الحديث (تماما كالدورة الدموية التي اكتشفها ابن النفيس قبل وليم هارفي بعدة قرون) !! وقصة اكتشاف البنسلين في أوربا لا تقل روعة عن قصة اكتشاف عفن الخبز في مصر.. ففي عام 1928 لاحظ الكسندر فيلمنج بالصدفة (والصدفة لا تأتي لغير العقول المستعدة) أن البكتيريا تتأثر سلبا بعفن الخبز .. وتقول الرواية إنه نسي قطعة خبز متعفنة قرب صحون البكتيريا المعقمة التي كان يجري عليها تجاربه في المعمل فلاحظ في اليوم التالي أنها تسببت في قتل البكتيريا وايقاف نموها .. وللتأكد من هذه الحقيقة استقطع أجزاء من عفن الخبز (وهو نوع من الفطريات الدقيقة المنتمية لجنس البنسيليوم) ووزعها على أنابيب تضمنت أنواع من البكتيريا الخطيرة . ورغم عجزه عن استخلاص المادة المؤثرة (وهي البنسلين في هذه الحالة) إلا أنه أدرك حقيقة توصله الى اكتشاف عظيم في عالم الطب .. وبعده بعامين تمكن الطبيبان الإنجليزيان هوارد فلوري وإيرنست تشين من استخلاص مادة البنسلين المؤثرة وتحضيرها كعقار (استعمل لأول مرة لعلاج رجل شرطة أصيب بتسمم الدم عام 1941) .. وفي السنوات التالية حضرت أنواع متفاوتة من هذا المضاد (من حيث القوة وطريقة الامتصاص) ساهمت في إنقاذ حياة آلاف الجنود في الحرب العالمية الثانية .. وحين انتهت الحرب أصبح البنسلين في متناول المدنيين في بريطانيا وأمريكا وسارعت لإنتاجه عدة شركات عالمية.. وأتت فترة من الفترات بدا فيها البنسلين قادرا على علاج كافة الأمراض البكتيرية من الأمراض الجنسية والبولية والتنفسية إلى التهابات الحلق والإذن والجروح البسيطة . ورغم اكتشاف قدرة البكتيريا العنقودية على مقاومة البنسيلين (بعد استعماله ضدها لوقت طويل) إلا أن حتى هذه المعضلة تم تجاوزها بتحضير درجات أكثر فعالية منه (كالبنسلين / ف) !! ... الجميل في قصة البنسلين أنه لم يساهم فقط في إنقاذ حياة الملايين ؛ بل وفتح الباب أمام فكرة (المضادات الحيوية) وإمكانية استعمالها بشكل منفرد أو مختلط لعلاج أمراض أخرى كثيرة !! أما المفارقة في الموضوع فهي جهلنا نحن بشخصية انسان ساهم في إنقاذ ملايين البشر، ومعرفتنا بطغاة وجزارين ودعاة جهنم أدخلناهم التاريخ من أوسع أبوابه!