من البديهي القول إن الثقافة تتطور نوعيا وكميا، حينما تمارس دورها الحضاري في استمرار مساءلة تاريخها وراهنها والفحص الدائم في السائد، حتى تطرد منه العناصر الميتة، وتضيف إليه حيوية جديدة وآفاقا غير مسبوقة، والمثقف لا يستأنف دوره إلا حينما يحمل مشعل التقدم الحضاري لمجتمعه ووطنه وأمته، فيسائل واقعه باستمرار، ويحاكم أفكاره، وينقد ذاته ويبلور آفاق التقدم ومعالمه النظرية، ويشترك مع بقية فئات المجتمع في محاربة كل أسباب التخلف وعوامل الانحطاط في الأمة وإن رهانات المثقف الحقيقية تتجسد في التزامه النظري والعملي بقضايا أمته الكبرى والمصيرية، أما الانزواء والانعزال المرضي عن هذه القضايا، فإنه يدخل المثقف في متاهات الضياع ودهاليز التردد، والدخول في معارك ليست معاركه الحقيقية، والالتصاق بخيارات تزيد من تهميشه التاريخي، وتنطوي على آفاق ومواقف تجعل المثقف على مستوى الممارسة، يقف في الخندق المقابل لخيار النهضة وبناء مواقع الأمة الحضارية. ولحظات الوعي تزداد اشتعالات ونورا، كلما تواصل المثقف مع قضايا الأمة، ومارس دوره الحضاري في إنتاج الأفكار الحضارية، ورفع مستوى الوعي والإدراك لدى المجتمع، والمشاركة في صناعة إنجازات الأمة الكبرى، وصياغة الإرادة العامة للأمة صوب التنمية والنهضة والتطور، وإن الظفر بمعركة الوعي مرهون بمدى قدرة المثقف، كنخبة، من القيام بأدواره التوعوية على أكمل وجه والثقافة طاقة خلاقة في الاجتماع الإنساني ومدى حيوي لأولئك النفر الذين تتأجج نفوسهم بإرادة التفوق واجتراح المعجزة الإنسانية فيها تبصر الأمة النور، وبقيمها ومبادئها العليا وبوشائجها يتجمع أبناء الأمة من أجل أن يكون لهم ما يجب أن يكون والمثقف مهمته الكبرى تتجسد في تشغيل وتوظيف هذه الطاقة في مشروعات البناء والنهضة كما أن الثقافة، على المستويين الاجتماعي والحضاري، تعني البحث عن أطر ووسائل وكيفيات للتفاعل مع الطبيعة والمجتمع. لذلك فإن نواة الحضارة هي الثقافة، لأنها التي تصنع الوعي الأفضل في تسخير واستثمار الطبيعة وخيراتها، كما أنها التي تصنع وقائع اجتماعية قائمة على قواعد حضارية تزيد من فعالية الإنسان والجماعة، فلا حضارة بلا ثقافة تشحن الفضاء الاجتماعي بقيم الكرامة والتنمية والبناء والثقافات تأخذ وتعطي تأخذ ما يتفق مع طبيعة البيان العقلي والفكري للأمة، وتعطي ما تجود به نوعيتها ونشاطها الفعال، وعلى امتداد التاريخ الإنساني كانت الثقافة من العوامل الأساسية لقيم النهضة والخروج من مآزق التهميش والتأخر والغياب الحضاري. لهذا فإن إعادة الاعتبار التام للثقافة ومسائلها الحيوية، تعد من الضرورات القصوى لأنه بدونها لا يتحقق أي شيء من تطلعات الأمة ومطامحها الكبرى والإحباطات والإخفاقات العامة التي يعيشها واقعنا ينبغي ألاّ تدفعنا إلى اليأس والقنوط والغياب عن أية فعالية هادفة، وإنما على العكس من ذلك تماما، إن إخفاقات الراهن، تحمل المثقف مسؤولية جديدة، هي مسؤولية الخروج من معادلة الإحباط والانخراط في شؤون الراهن وقضاياه، والانطلاق بممارسات نظرية نوعية واجتماعية تنسجم وأفق الأهداف العامة للمجتمع والأمة، والثقافة هي سبيلنا إلى القوة الذاتية القادرة على مجابهة تيار التحولات الكبرى التي تجري في العالم على مختلف الصعد والمستويات، وهي التي توفر لنا الأسباب الذاتية لصياغة إرادة جمعية تتعاطى بفعالية وايجابية مع تحولات العالم وتطوراته، وهي التي تنظم مساحة الأولويات للمجتمع والأمة، بحيث تتجه الجهود والطاقات إلى الأولى والأهم، وهواجس المستقبل تدفعنا في المجالين العربي والإسلامي، إلى التوجه الجاد نحو الثقافة ومسائلها الحيوية، والبدء بمرحلة جديدة من العمل الثقافي الجاد الذي يتجه إلى قضايا الأمة وآفاقها ومصائرها فلا تقدم اجتماعي بدون ثقافة تدفع إلى ذلك وتوفر كل أسباب الانطلاقة الاجتماعية الجديدة ودور المثقف في هذا الإطار هو إنتاج هذه الثقافة وتعميمها وتعميقها في المحيط الاجتماعي فالثقافة هي حجر الزاوية في مشروع التقدم الاجتماعي. لذلك فإن التغيير يبدأ بالثقافة وهي أداته ووسيلته الكبرى. فالمجتمع الذي تسوده ثقافة جامدة راكدة لا مسؤولية لا يتقدم حتى لو كانت كل الظروف مواتية له. لأنه لا يمتلك القدرة على تحويل أفكاره إلى وقائع وطموحاته إلى حقائق وجعلها تتجمع وتتجه في أطر محدودة ومعالم واضحة فهذه القوة الإنسانية والموضوعية هي جسر بناء مفهوم القوة الثقافية في الأمة والقوة الثقافية هنا لا تعني جملة المظاهر الاحتفالية وإنما هي بناء الإنسان المثقف الواعي القادر على المساهمة في بناء وطنه وعزة أمته، والمدرك لموقعه التاريخي فلا قوة ثقافة بلا إنسان أو محيط مثقف فهو منبع التجليات الثقافية وصانع المظاهر الاحتفالية وبدونه تبقى الثقافة وكأنها شيء مجرد لا شأن لها بمصير الأمة ومستقبلها وعن هذا الطريق تتمكن الأمة من مقاومة تهديدات الثقافات الوافدة ومواجهة الأخطار المحدقة بثقافتها وقيمها وذلك لأن هذه العناصر تصنع ظروفا ومحيطا يتجه إلى الفعل والإبداع وصناعة البديل، بل الصراخ والضجيج والعويل فالصراخ لا يمنع تسرب عناصر الثقافات الوافدة إلى جسم الأمة وحده بناء الوجود الثقافي الذاتي الفاعل والمبدع هو خيار الأمة الاستراتيجي لمواجهات تحديات العصر الثقافية. وستبقى الخطوة الأولى لضمان المستقبل الثقافي لأمتنا العربية والإسلامية هي توطيد أواصر الفعل الثقافي مع حاجات العصر ومتطلباته. فكلما كانت الثقافة في سياق اجتماعي متحرك وفاعل كلما كانت ناصية المستقبل في متناول ذلك المجتمع. فآفاق المستقبل الثقافي للمجال العربي والإسلامي عديدة ومتنوعة ولكنها تحتاج منا إلى إعادة الاعتبار للثقافة ودورها في التقدم والتنمية فالثقافة ليست عملا خاصا بفئة أو نخبة وإنما هي عملية تشترك جميع فئات المجتمع في ممارساتها وتطويرها واغنائها بالمضامين الجديدة ووحدها الثقافة المبدعة والمنتجة هي القادرة على تأسيس المحيط الاجتماعي الذي يحتضن آفاق المستقبل الثقافي ويحولها إلى حقائق ووقائع ثابتة في المجتمع والأمة. ولكي تتمكن الثقافة عبر وسائطها المتعددة، من تحقيق حضورها وتأثيرها في الفضاء الاجتماعي. هي بحاجة أن تقترب من الأسئلة والمشكلات الحيوية، التي تبحث عن حلول ومعالجات رصينة وموضوعية. فكلما اقتربت الثقافة كممارسة فردية وجماعية من أسئلة الحرية والتعددية والوحدة وحقوق الإنسان والإصلاح والتسامح والاعتراف بالآخر رأيا ووجودا، أضحت أكثر حيوية وتأثيرا في الفضاء الاجتماعي ..أما إذا انزوت الثقافة، وتعالى المثقف عن شؤون وشجون مجتمعه، فإن كل الأفكار المتداولة، تصبح محصورة في رقعة اجتماعية محدودة وذات تأثير بسيط .. من هنا فإننا نعتقد أن حجر الزاوية في مشروع حضور الثقافة الاجتماعي، على مستوى الاهتمام والتأثير، تبدأ حينما تقترب العملية الثقافية بكل وسائطها واليات عملها من أسئلة المجتمع الحيوية والملحة في آن.. وإن المهمة الثقافية الأساس على هذا الصعيد، ليس تقديم إجابات نهائية حول الأسئلة الملحة، وإنما تعميق هذه الأسئلة، وإدارة حوارات فكرية عميقة لكل القضايا والإشكاليات المتداولة في الفضاء الاجتماعي والثقافي، من أجل إنضاج رؤى وخيارات ثقافية جديدة للمجتمع والوطن كله. فالمطلوب اليوم ليس الانزواء والانكفاء عن القضايا الثقافية الملحة، وإنما التعامل والتفاعل معها، والكتابة المتواصلة حولها، والانخراط في مشروعات تعميم الوعي والمعرفة بها لكل الشرائح والفئات.