كثيرهم الذين تربطني بهم صداقة وثيقة، وعلاقة قديمة حميمة، أو صحبة عمل ممن شرفوا بثقة قيادتنا الرشيدة باختيارهم أعضاء لمجلس الشورى - تمديداً أو تعييناً -. سألني بعض هؤلاء الإخوة الأفاضل عن تجربتي، ورؤاي في دور هذا المجلس، حيث كنت قد شرفت بعضويته.. واستجابة لمطلبهم فإني أذكر أنها كانت مفاجأة لي أن يتم اختياري عضواً في مجلس الشورى عام 1414ه، ضمن ستين رجلاً من رجال المملكة الأكفاء، وذلك بعد إعادة تشكيله، وقد شعرت بأنه تشريف لي، ورحبت بهذه الفرصة الذهبية التي أتيحت لي أشد الترحيب، وشكرت للقيادة حسن ظنها بي، وقد بادرتُ حينها بطلب الإذن لي أن ألقي خطاباً في أول جلسة للمجلس، وكانت الكلمة الوحيدة التي تُلقَى، شرحت فيها رؤاي للمجلس، وما ينبغي أن يكون عليه، ولايزال هذا هو موقفي من المجلس، ومفهومي لغايته، والأدوار المناطة به، كما أن المأمول من كل من ينال شرف عضويته أن يوجه جهوده لتحقيق الغاية العظمى لهذا المجلس، وكان مما قلته في ذلك: «إن جهدنا كله - في تصوري - يجب أن يتوجه إلى إنجاح الفكرة التي قام عليها هذا المجلس لخدمة البلاد، وقد أُسس نظام المجلس على النصين القرآنيين الكريمين: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين»، وقوله تعالى: «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون». ٭٭ ٭٭ ٭٭ فالشورى من صفات الجماعة المؤمنة التي لم يتخل عنها مجتمعنا أبداً - بحمد الله - حتى في مستوى الأسرة، والعشيرة، والقبيلة، وها هي بإرادة خادم الحرمين الشريفين تعود إلينا مفهوماً سياسياً محدداً في إنشاء هذا المجلس. ٭٭ ٭٭ ٭٭ والعزم المذكور في الآية الكريمة الأولى هو «الأمر المروَّى المنقَّح» ولا يروِّي الأمر وينقّحه مثل العقول الراجحة، التي يتميز أصحابها بالإخلاص للحق، والثبات عليه، يُهدُون ثمراتها الناضجة إلى أولي الأمر منهم؛ ليكون عزمهم على بينة وبصيرة، وتوكلهم على الله وحده مسدداً بحسن الاختيار ودقة التمحيص. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وبقدر ما نوجه جهدنا كله إلى تحقيق هذا الهدف السامي النبيل يكون هذا المجلس قد نجح في أداء دوره، وأثبت فعاليته، وقدم قدوة صالحة للأجيال الناشئة من أبناء هذا الوطن، وهذا بدوره يهيئ أفضل الظروف الداعية إلى تطوير مهمة المجلس، وتوسيع نطاق اختصاصه، والارتفاع بمستوى مسؤولياته. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وسوف نستمع - كلنا - في مناقشات هذا المجلس إلى أشياء نرضاها، وأخرى لا نقرها، ولكل منا تقاليد ربي عليها، ومناهج ارتضاها لنفسه ولتعامله مع الرأي الذي لا يقره، ومن المحال توحيد فكر الناس كافة، واجتماعهم على مقولة واحدة، فليكن اهتداؤنا في هذا الخصوص بقول الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري - عندي - خطأ يحتمل الصواب». فإذا ظهر الحق واتبعته الأغلبية فلنحذر أن نجادل في الحق بعد ما تبين، فإنها خصلة ذم لا تليق بذوي الحجَى، ولا تتفق وصريح المروءة، وليكن الرأي الذي صدر عن المجلس هو رأي المجلس كله، مادام كل صاحب رأي قد أُعطِي حقه في إبدائه، ومحاولة الإقناع به. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ولنقتنع بأن أي أمر نراه لن يكون هو «غاية المنتهى» ولكنه دائماً عرضة للعدول عنه، واتباع ما ظهر أنه خير، ولنا أسوة في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي موسى: (ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعتَ فيه رأيك وهُديت فيه لرشدك من مراجعة الحق، فإن الحق قديم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). ولنا في فعل الإمامين أبي حنيفة وابن حنبل قدوة؛ فلكل منهما آراء عديدة في المسألة الواحدة بحسب ما ظهر من الدليل كل مرة.. فلنعرف الحق بدليله، ثم نتفق على اتباعه. وليكن هذا هو فهم مجلسنا في صغير الأمور وكبيرها - إن شاء الله -. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ونحن في هذا المجلس نخدم وطننا كله، ولا يجوز لأي منا أن يُؤْثِر بنظره، أو برأيه، أو باهتمامه جماعة أو قبيلة، أو منطقة من جماعات هذا الوطن وقبائله وأنحائه. والنظر للأمور التي تعرض على هذا المجلس والمناقشة فيه يجب أن تتسم كلها بالانطلاق من المنظور الجمعي الكلي، وليس من المنظور الجزئي على أي نحو كان.. والتحيز في هذا المجلس هو لخدمة هذا الكيان الذي نستظل بظله، ونحتمي بحماه، وهو للمصلحة العامة دون سواها.. والتعصب هو للحق الثابت وحده، وإذا كانت الدولة - حرسها الله - بنص النظام الأساسي للحكم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإن هذا المجلس أحد العيون الواعية اليقظة المبصرة التي تبين المعروف، وتحض على الأمر به، وتشير إلى المنكر، وتنبه إلى خطورته، وضرورة الإلحاح في توقي وقوعه، ورفعه إذا كان بالفعل قد وقع. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ولذلك فإن المجلس لا يجوز أن يضيق صدره بالإشادة بالصواب الذي تصنعه مؤسسات هذه الدولة وهيئآتها كافة، بل ينبغي أن نشد على يد المحسنين من القائمين بالعمل فيها، وأن نقوي عزمهم بما يدعوهم إلى الاستمرار على تحري الصواب، وإلى تطوير أساليب الوصول إليه، وهذا من صميم الأمر بالمعروف. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وحين نرى أمراً نعده خطأً غير محقق للصالح العام فإن المجلس لا يجوز أن يتردد في إسماع صوته إلى المسؤولين عنه، وإلى أولي الأمر، حتى يتمكنوا من منع تكراره، ويحولوا بين أصحابه وبين الإساءة إلى التجربة العظيمة التي تعيشها هذه البلاد بفضل الله ونعمته، ثم بعزيمة ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده، وصواب فكرهما، وسداد رأيهما، وإخلاصهما.. وهذا من صميم النهي عن المنكر، لكنه لا يكتمل إلا باقتراح البدائل الصحيحة للأساليب أو الممارسات أو الأوضاع الخاطئة؛ لأن الانتقاد وحده لا يصحح الوضع المطلوب تصحيحه، وإظهار النقص لا يقود إلى الكمال إلا إذا اقترن بإشارة هادية تعين على الوصول إليه. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وبقدر ما نكون عدولاً في الثناء والإطراء فلا نغلو ولا نزايد. وبقدر ما نكون عدولاً في التنبيه إلى الخطأ إن وجد؛ فلا نفرط في حق الأمة علينا بالإغضاء عنه؛ فنكون قد تحملنا مسؤوليتنا، وأمسينا وأصبحنا عند حسن ظن الذين منحونا الثقة الغالية، وكما أن صوابنا واقع، فإن الخطأ - من كل أحد - غير مستبعد؛ إذ لا عصمة لإنسان بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعقل والحكمة يقتضيان ألا يضيق العقلاء والحكماء بانتقاد أخطائهم، بل إنهم بذلك يسعدون، ولذلك قال قائلهم «رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي». ٭٭ ٭٭ ٭٭ لقد شرفت بزملاء في غاية الفضل في علمهم وخلقهم، وكان على رأس من عملت معهم، وتعلمت منهم معالي الشيخ محمد بن جبير - رحمه الله - فهو من الشخصيات الفذة، عالم جليل، عاقل محنك، مجرب، كانت تربطني به علاقة قبل أن أكون تحت رئاسته عضواً في المجلس.. كان عند الشيخ ابن جبير بعد نظر قد لا يتوفر عند كثير من الناس، كان مشفقاً على هذه التجربة وحريصاً عليها ألا تخفق، ويرى أنها تجربة لابد أن تنمو بالتدرج.. وكان يتعامل معنا، نحن الأعضاء بكل رقة، ويُشعر كل واحد منا أنه هو الأقرب إليه. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وكان من بين أعضاء المجلس - آنذاك - صديقي معالي الدكتور صالح بن عبدالله ابن حميد، ومع أنه يصغرني سناً إلا أني تعلمت منه الشيء الكثير - ولا سيما في القضايا الفقهية، وكنت على علم بسيرة والده الفذ، سماحة الشيخ عبدالله بن حميد - رحمه الله - إذ كانت بلدتنا مدينة المجمعة إحدى محطات عمله في القضاء. وكثيراً ما حدثنا عنه كبارنا، الذين كانوا يعتزون بأهمية بلدتنا أن كان من قضاتها هذا الشيخ الجليل.. من هنا كانت سعادتي أن تولى الشيخ الدكتور صالح رئاسة المجلس بعد وفاة رئيسه الأول. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وطيلة عضويتي في المجلس كنت في لجنة «التعليم والثقافة والإعلام» ،هكذا كان اسمها في ذلك الوقت، والمجلس بحق مدرسة متقدمة، فالأوقات التي نقضيها فيه - بجانب إمتاعها - كانت مفيدة وبعيدة عن الضغوط التي تواجه من هم في الوظائف التنفيذية، ولقد بادرت بعدد من المقترحات التي تبناها معي زملاء في المجلس، ورفعت لمقام خادم الحرمين الشريفين كما ينص على ذلك نظام المجلس، ومن أبرزها اقتراح بإنشاء «وزارة للثقافة» وآخر بتكوين (فريق لتقويم التعليم بكل مرحلة» تكشف نقاط الجودة فيه، ونقاط الضعف، واقتراحاً بالتطوير المنشود - ولقد تم - بحمد الله - الأخذ بكثير من اقتراحاتي في مراحل زمنية لاحقة. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ويأتي المجلس في تشكيله الحالي مكوناً من مائة وخمسين عضواً، بعضهم بالتمديد من دورة أو دورتين سابقتين، وآخرون بالتعيين الجديد، وهم في مجملهم من خيرة الرجال حكمة، واتزاناً، مع علم وتجربة، برئاسة رجل فاضل هو معالي الدكتور عبدالله بن محمد آل الشيخ الذي عرفته عن قرب فوجدته الحصيف، والعالم، والإداري المتفتح، بل القيادي الملهم، وأنا مثل المواطنين الآخرين ندعو لهم بالتوفيق والسداد، وان يكونوا عوناً للقيادة بتقديم المشورة المخلصة، والرأي السديد. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وإني أعتز بالصداقات التي كسبتها مع أعضاء مجلس الشورى كلهم دون استثناء السابقين والحاليين، وهم جميعاً محل تقديري، ومازلت على اتصال وثيق بمعظمهم، ومن كثير منهم تعلمت أشياء أفادتني في حياتي العملية بعد ذلك، حتى إني أستشير بعضهم في كثير من الأمور المهمة التي تواجهني. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.