قسّم عالم السنة الشهير عضو مجلس الشورى الدكتور حاتم الشريف، الأطياف الإسلامية على الساحة السعودية إلى ثلاثة أقسام، اثنان منها على النقيض، والأخير وسط بينهما. وأكد في حوار مع «الحياة»، أن بين تلك الأطراف فريقاً يوشك على الانقراض لأن الزمن سيتجاوزهم، وفصل ذلك بالقول: «هو فريق لا يفهم من معنى الثبات، إلا أنه الجمود على الرأي القديم ولو كان خطأ، أو حتى لو كانت المرحلة والواقع يوجبان تغيير المواقف، وأن تغييرها مما توجبه الشريعة، بناء على اختلاف المرحلة. وهؤلاء بعيدون عن التطوّر، قريبون من الانقراض، لأن الزمن سيتجاوزهم». وحذّر الشريف ادعياء الكمال في المؤسسات الإسلامية من الغرور. واعتبر أي طائفة او جماعة تتصوّر أنها تمثل السلف الصالح التمثيل الكامل في المنهج والمعتقد والتعبّد والأخلاق والآداب، وترى أنها الصورة الحيّة لذلك الجيل، فقد وصلت إلى حدٍّ بعيد من الغرور المَرَضي... وفي ما يأتي نص حوار معه: كيف ترى واقع الصف الإسلامي لدى أبنائه؟ هل اختلفت الرؤى فاختلف النشاط؟ أم أن الأولويات تباينت من طيف لآخر فتشتت الجهد؟ - الصف الإسلامي هو المسلمون جميعاً، فكل مسلم على وجه الأرض هو أحد المصطفين في هذا الصف، إلا ان أردتَ بالصف الإسلامي أصحاب الخطط والأفكار والبرامج الدعوية والإصلاحية، التي تحرص على أن تكون مستمدّة من الإسلام، إن أردت هؤلاء خصوصاً، فهم جزء من واقع المسلمين المعاصر بمحاسنه وعيوبه، بمعنى أن برامج هذا الصف تختلف من طيف لآخر، ومن طائفة لأخرى، وعموماً هذه البرامج يمكن أن تتكامل، ويستفيد بعضها من بعض، من دون أن تُغير من خططها أو برامجها العملية. أما عن تطوّر الأطياف المتعدّدة للصف الإسلامي الذي يشير سؤالك إليه، فهي أيضاً تختلف في ذلك. فمن هذه الأطياف ما لا يفهم من معنى الثبات، إلا أنه الجمود على الرأي القديم ولو كان خطأ، أو حتى لو كانت المرحلة والواقع يوجبان تغيير المواقف، وأن تغييرها مما توجبه الشريعة، بناء على اختلاف المرحلة. وهؤلاء بعيدون عن التطوّر، قريبون من الانقراض، لأن الزمن سيتجاوزهم. ومن الأطياف ما لا يفهم من التطور إلا بألا تكون هناك ثوابت، فكل شيء عند هؤلاء متجدد بلا استثناء. والشيء الوحيد الذي لا يقبل التبديل عندهم هو التبديل نفسه، فهو الثابت الوحيد، فالتبديل هو الهدف الوحيد المطلوب لذاته، لذات التبديل! فالتطور عند هؤلاء هو ترك الرأي القديم ولو كان حقاً، والإبداع لديهم هو الابتداع، ومسايرة الواقع في نظرهم هي السجود له، واستلهام الشريعة منه. وهؤلاء يُستفاد منهم في عدم الانجراف لحنين القديم لمجرد أنه قديم، وفي عدم استصعاب الاعتراف بالخطأ. ولا نستفيد منهم انهزاميتَهم للواقع، وعدمَ وجود أُسسٍ ثابتةٍ لهم ينطلقون منها. ومن الأطياف ما حاول التوسط بين هؤلاء وهؤلاء، وبقدر اعتدال هؤلاء وقربهم من الحق يكونون أسعد بالصواب، اذ إن الثبات الممدوح في الحقيقة ليس هو الجمود على ثباتٍ ما، وليس هو الثبات على كل قديم. وإنما هو الثبات على الحق ولو كان جديداً على المعاصرين وفي تصوراتهم. أما الإبداع والاكتشاف الحقيقي والذي يستحقُّ براءة الاختراع، فهو الوصول للحق بأدلته، ولو كنتَ مسبوقاً إليه، فليس من لوازم الإبداع أن يكون اختراعاً على غير مثالٍ سابق. بل ربما يكون من الإبداع مجرّد الاعترافِ بالخطأ القديم، لأنك لن تصل للحق الذي تبحث عنه إذا لم تعترف بالخطأ الذي يحجزك عنه. وعلينا في هذا السياق أن نعلم أنه لا يلزم من تركنا لرأيٍ قديمٍ أن نكون بمجرد ذلك مبتدعين متنكّرين للسلف. هل الاجتهاد في الأصول مقبول؟ وهل الاختلاف فيها يعد مزلقاً شرعياً؟ - إن قُصِد بالأصول علم أصول الفقه، وقُصد بالاجتهاد تحرير قواعده وأدلتها وتصويب رأي من الآراء المذكورة فيه على رأي آخر بناء على الأدلة، فهذا مقبول من أهل العلم المؤهلين للخوض فيه. وإن قُصد بالأصول مسائل العقيدة مطلقا، التي يقابلها مسائل الفقه (الفروع) مطلقاً، فلا يصح أن نطلق القول بقبول الاجتهاد في كل مسائل المعتقد، ولا يصح أن نطلق القول بعدم القبول أيضاً. فمسائل المعتقد منها ما هي أصول فعلاً فلا يجوز الخلاف فيها مثل: إفراد الله تعالى بخصائص الربوبية، والشهادة لمحمد بالنبوة والرسالة. ومنها ما يقبل الاجتهاد، مثل بعض فروع المعتقد، ومن مسائل فروع المعتقد مسائل قد اختلف فيها الصحابة والتابعون والأئمة المتبوعون، مما يدل على أنها مسائل قابلة للاجتهاد، هي ومثيلاتها. كما أنه يجب التنبيه على أنه ليس كل خلاف وقع في مسائل المعتقد مما يصحُّ الاجتهاد فيه، فالاختلاف الذي يصح الاجتهاد فيه من مسائل المعتقد هو الذي يكون اختلافاً معتبراً، وأما الخلاف غير المعتبر فليس من مسائل الاجتهاد. وأما ضوابط التفريق بين الاختلاف المعتبر والخلاف غير المعتبر فهو ما أوضحتُه في أحد كتبي الأخيرة، وهو كتابي: (اختلاف المفتين). نُعت الفقه النجدي في عصرنا من بعض الكُتّاب ب»المتراجع» وسابقاً ب»الصحراوي»، كيف تراه أنت وماذا يحتاج حتى يصبح ربيعياً؟ - الفقه النجدي إن تجاوزتُ عن هذا الإطلاق هو في عامته الفقه الحنبلي، وهو أحد المذاهب الفقهية الأربعة المعتبرة في العالم الإسلامي (السُنِّي) كله، فلا يصح أن يُنتقص أو أن يُستهان به. أما إن قصدتَ الفتاوى المعاصرة لعلماء نجد (وفقهم الله)، فهم كغيرهم من علماء هذه البلاد وغيرها من بلاد العالم الإسلامي: يصيبون ويخطئون، لكن صوابهم أكثر من خطئهم، وبعض علماء نجد (كغيرهم أيضاً) أسعد بالصواب من بعض، وبعضهم أكثر خطأ من بعض . ولا ينكر أحد أن البيئة الصحراوية تؤثر في الطباع، كما بين ذلك ابن خلدون، وأن الطباع تؤثر في التصورات والآراء والفتاوى، كما نبّه على ذلك ابن حزم وغيره، لكن لا يعني ذلك أن البيئة الصحراوية هي المؤثر الوحيد، لكنها مؤثر من ضمن مؤثراتٍ كثيرة، والتي يأتي من بينها مؤثرات أقوى أثراً على المفتي، كمذهبه ومدرسته الفقهية والأصولية التي ينتمي إليها. ولذلك فإن أثر البيئة الصحراوية على الفتوى له وجود، لكنه ليس هو المؤثر الوحيد، ولا هو المؤثر الأقوى. ولذلك فوصف الفتوى الصادرة عن علماء نجد بالصحراوية بهذا الإطلاق أو التعميم ليس وصفاً عادلاً، ولا قريباً من العادل. والحق يُقال: إن الجمود في الفقه ليس خاصًّا بعلماء المناطق الصحراوية، بل ربما صدر من بين رياض الحدائق الربيعية ومن بين منابع الأنهار في العالم الإسلامي، فهو نتاج الضعف العلمي العام، ونتاج التقليد، ونتاج مناهج التدريس للعصور المتأخرة التي تعتمد على التلقين المحض. فهل تجد أكثر رجعية من الفتوى التي كانت قد خرجت زمن الدولة العثمانية بتحريم طبع المصحف بالمطابع التي صنعها الكفار لأنها من صُنع الكفار؟! هذه الفتوى صدرت من تركيا في ذلك الوقت، من بين السهول الخصبة لهضبة الأناضول وتحت ظلال جنانها! كيف ترى قابلية السلفية لنقد ذاتها، وهل لدى أصحابها حساسية من نقد رموزها؟ - السلفية: قد يُراد بها أتْباعُ السلف الصالح، وهذا الاتّباعُ شرفٌ كبير، ومنهجٌ عظيم، ولذلك يدّعيه عامةُ الجماعات: فإن كثيراً من المعتزلة يدّعيه، فضلاً عمن سواهم من المتكلمين ممن هم أولى بالسلف منهم. ويدّعيه أيضاً عامة طوائف الصوفية، حتى إنهم ليدّعون الخلفاءَ الراشدين الأربعةَ وأصحابَ الصُّفةِ (رضي الله عنهم أجمعين) من الصوفية، بل إنهم ليعدّون هؤلاء أصلاً للصوفية. وما هذا التصارع في الانتساب للسلف إلا لشرف ذلك الجيل من أصحاب النبي وتابعيهم وأتباعهم، الذين نؤمن جميعنا أنهم أفضل الأجيال. وهذا الجيل وإن لم يكن آحادُهم وأفرادُهم معصومين، لكن منهجهم هو المعصوم؛ لأنه هو المنهج الذي علّمه النبي لأصحابه رضي الله عنهم. وهذا المنهج هو الذي يدّعيه كل مسلم، وتزعم الانتسابَ إليه كلُّ الطوائف الداخلة في دائرة الإسلام . فإن كان السؤال عن السلفية بهذا المعنى، فلا يمكن أن نلحق بمنهجها أي نقص . وأما إن كان السؤال عن الجماعات المعاصرة التي تنتسب لمسمى السلفية، فلا يمكن الكلام عنهم بحُكمٍ واحدٍ يشملهم، فهم في الحقيقة جماعات، وليسوا جماعةً واحدة، بل هذه الجماعات السلفية فيها من يُبدِّع بعضُها بعضاً. فمن هذه الجماعات من يتهم جماعة تسمي نفسها بالسلفية بأنهم مرجئة ومبتدعة، وجماعة أخرى تتهم آخرين بأنهم خوارج، وآخرون بأنهم (ليبروإسلاميون) كما ذكرتَ أنت .. وغير ذلك. ولا ينجو من هذا التصنيف والتبديع كبير ، ولا كبار رموز السلفية المعاصرة، كالشيخ ابن باز والشيخ الألباني (رحمهما الله تعالى). فأي الجماعات تريد ؟! وهذا أول نقد أوجهه لهؤلاء: بأن أقول لهم: إن أي جماعة تتصوّر أنها قد احتكرت الحقيقة بحذافيرها، وتعتقد أنها حازت الحقَّ كله من أطرافه، ولو في مسائل المعتقد وحدها كبيرها وصغيرها أصولها وفروعها «مع أن مسائل المعتقد صنو مسائل الفقه في ظهور أدلة بعضها وخفاء بعضها وفي أسباب الاختلاف في بعضها»، فقد وقعت في خطيئة التعالي عن النقد، وعدم قبول فكرة الإصلاح والتجديد بالرجوع إلى الحق القديم الذي كان عليه السلف الصالح. ومثل هذه الجماعات التي تتبنى فكرة احتكار الحق بحذافيره، أو فكرة أنها حازت الحق الذي لا يُعذر أحدٌ في عدم موافقتها عليه: هي الجماعات المؤهّلة لمزيد من التمزّق والتشرذم، كما هو الواقع المشاهد؛ لأنها تُفاصل على أخطاء «إن كانت أخطاء» لا تستحقّ المفاصلة. وأي جماعة تتصوّر أنها تمثل السلف الصالح التمثيل الكامل: في المنهج والمعتقد والتعبّد والأخلاق والآداب، وترى أنها الصورة الحيّة لذلك الجيل فقد وصلت إلى حدٍّ بعيد من الغرور المَرَضي؛ إذ إننا نرى واقعَ هؤلاء المليء بالعيوب والنواقص، البعيد عن واقع جيل الصحابة، بما لا موازنة بينهما فيه. فأين هي الجماعة التي تمثّل جيل الصحابة في التعبّد والتألّه والزهد والورع؟! بل أين هي الجماعة التي تمثل جيل الصحابة في الأخلاق والآداب ونزاهة اللسان وسلامة الصدر والرحمة بالخلق مع الصدع بالحق؟! ما أبعد كل الجماعات عن ذلك كله؛ إلا من رحم ربك. ولا يعني ذلك أني أتهم الجميع ببعدهم عن منهج السلف، ولا أن منهج السلف الكلي غامض لا يمكن معرفته، لكني أقول إنه لا وجود لجماعة منزّهة عن النقص والتقصير، ولا وجود لجماعة تمثّلُ جيلَ الصحابة التمثيل الكامل، بل كل الجماعات قابلة للنقد والتصحيح والتجديد الشرعي. فالسلفية التي تظن أنها بمجرّد الانتساب للسلف أصبحت منزّهة عن الخطأ، هذه هي المستعصية على النقد، وهي التي تُكسِبُ رموزَها صفةَ العصمة، برفض نقدهم النقد المعتدل البناء، الذي لا يُسقط هذه الرموز، بل يحفظ لها جليل قدرها، لكنه لا يحيطها بهالة التقديس من الخطأ. وهذا النقد لهذه الجماعات ليس الغرض منه إسقاطها، وكيف لمثلي أن يفكر في إسقاطها، فهم أقرب الجماعات إلينا، وأنا معهم على المعنى الشرعي لقوله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، ولستُ معهم على المعنى الجاهلي لهذا المثل العربي القديم، الذي صحّح النبي صلى الله عليه وسلم معناه. وسأقف معهم ضدَّ الذين يعادونهم ويحاربونهم؛ لأن بعض هؤلاء لا يعادونهم لأخطائهم التي نأخذها عليهم، بل يعادونهم لصوابهم! أو يعادونهم لصوابهم وأخطائهم معاً، بل ربما للإسلام الذي يحملونه ويدافعون عنه.