بعد أن دمرت الحرب العالمية الثانية أوروبا ومراكزها الصناعية والاقتصادية لم يبق لهذه البلدان غير كوادرها المتعلمة التي اعتمدت عليها فيما بعد للنهوض باقتصاد القارة وإعادة بنائها من جديد. وهذا كان درسا كبيرا للقارة العجوز ولبقية البلدان بضرورة الاهتمام بالتعليم والتركيز على التخصصات ذات القيمة التنافسية العالية. فاليابان مثلاً تخصص لكل 8 من طلبة التعليم العالي في الكيمياء والفيزياء وغيرها من المواد العلمية أستاذا جامعيا. وفي الولاياتالمتحدة أستاذ لكل 13 طالباً. وهذا الاهتمام أدى إلى انخفاض معدل الأمية وارتفاع معدل الطلبة الملتحقين بالتعليم الجامعي من إجمالي خريجي المدارس في البلدان الصناعية إلى ما فوق ال 50%. وللمقارنة فإن هذا المؤشر في البلدان العربية يصل إلى 22% فقط. ولذلك فلا غرابة، بعد هذه العناية والاهتمام، أن تحتل الجامعات في الولاياتالمتحدة وأوروبا قائمة الصدارة ضمن أفضل الجامعات الموجودة في العالم. فمن بين أفضل 3000 جامعة في العالم عام 2005 جاءت العشر الأولى منها من أمريكا. ونحن في المملكة، التي أنفقت فيها الدولة على التعليم وتطوير الموارد البشرية أموالا طائلة تتعدى ما أنفقه عدد من بلدان الشرق الأوسط مجتمعة، لا تزال جامعاتنا للأسف- ربما باستثناء جامعة الملك فهد للبترول والمعادن- بعيدة جداً عن احتلال مراكز الصدارة في التصنيف الجامعي العالمي. بل ان هناك عددا لا بأس به من جامعات الشرق الأوسط لا تزال تتقدم على جامعاتنا في تصنيف الجودة. وأحد الأسباب، كما يبدو لي، يكمن في سوء استخدام الموارد الموجهة لتطوير الموارد البشرية والتخصصات العلمية المطلوبة. فالجامعات الموجودة في بلدنا غير متناسبة، لا من حيث العدد ولا من حيث التخصصات ومستوى الاستعداد ولا من ناحية التجهيزات والمعدات اللازمة، لمواكبة التطور في المملكة ومدخلات العمل في قطاع الأعمال. فما بالك عن احتلال مراكز الصدارة في التصنيف العالمي للجامعات. ومن تورط مع وزارة التعليم العالي، هذه الوزارة العزيزة والقريبة إلى قلوبنا جميعاً، لا بد وأن تكون قد راودته الفكرة عن الأسباب التي أدت إلى تراجع تصنيف جامعاتنا. فهم يعطونك مذكرة مراجعة من الصعب مراجعة المعاملات من خلالها. إذ ليس هناك من يرد عليك غير شريط المسجل: وزارة التعليم العالي حي الناصرية تقاطع شارع المعذر مع شارع التخصصي...أدخل التحويلة المطلوبة أو صفر لمساعدة المأمور. فإذا أدخلت التحويلات المدونة في المذكرة المشار إليها، بعد الرقم 4415555، فإنك لا تسمع غير الشريط السابق نفسه يرد عليك: لحظة من فضلك. ومن ثم يتلو عليك العنوان الالكتروني للوزارة: www.mohe.gov.sa . أما الموظفون العاملون في الاتصالات الإدارية فإنهم لا يردون عليك البتة. فإذا أعياك أمرهم وطلبت مساعدة مأمور السنترال فإن هذا الموظف المخلص سرعان ما يحولك على نفس التحويلات السابقة التي لا يجيب عليها أحد. وهكذا تدور في حلقة مفرغة. إذ حتى مأمور السنترال، بعد أربعة اتصالات مضجرة منك به، يأخذ القدوة من موظفي الصادر ويفضل عدم الرد على الاتصالات اللاحقة حفاظاً على الهدوء وراحة البال. وأنا هنا أتساءل: هل هناك فرق بين سوء أداء هؤلاء الموظفين، الذين أوكلت لهم الوزارة خدمة المراجعين عن بعد والرد على استفساراتهم، وإلا لما وضعت لهم تلفونات ولما تم توظيف مأمور للسنترال لتحويل المكالمات عليهم، وبين سوء التصرف في بقية الموارد المخصصة لتطوير الموارد البشرية . ولكن التعليم العالي حتى لو اقتصرنا الأمر على المسمى فقط فإن ذلك وحده يفترض أن يكون كفيلا بإلزام الوزارة بأن تكون قدوة لنا جميعاً في التعليم العالي لحسن الأداء. فالمملكة لا تنفق كل هذه المبالغ الضخمة على تعليم بناتنا وأبنائنا في الداخل والخارج إلا من أجل الارتقاء بالمهارة ورفع أداء موظفي المستقبل للنهوض باقتصادنا إلى مصاف أرقى بلدان العالم.