رحل الأستاذ طلعت وفا رحمه الله مصطحباً معه دماثة الخُلق ونقاء السريرة، وصفاء الذات، لكن المرض المميت أسلمه إلى عيادة الحياة، ومشفى الثناء، وما أفنى الخلق الكريم امرءاً عاش في أفنية القلوب، ولا أهلك ابتسامة تخدُّ في الأرض عبارات الرضا، وإن رجلاً بحجم هذا الإنسان المتسم بحلل التواضع والود لم يكن ليرحل من دار الحياة إلا إلى دور الأحياء، ولم يسكن قلب الأرض إلا ليخلد في قلوب الشرفاء. وإن حب الناس لا يمكن أن يتأتى مصادفة، ولا يتجسد إلا عندما تتجسد في المرء خصال تحفز القلوب على القبول، كان العماد الأصبهاني يشخص القيمة الإنسانية من خلال القيم الأخلاقية السلوكية، قال ذات مرة ناصحاً رجلاً أقبل على جاه ومنصب: "ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم يدك يطيعوك". وتلك من آيات المروءة وأسباب البقاء دون رحيل، ولربما كان الموت أحد المفاتيح لخزائن الحياة إذا ما كانت النفس عاملة على صنع المحبة ونسج الخُلق، وما أصدق الشاعر حين قال: الناس اثنان: موتى في بيوتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء وما أوثق قول الشاعر الآخر: موت التقي حياة لا نفاد لها قد مات قوم وهم في الأرض أحياء ولقد وقفت عند كلمة جميلة لباسترناك، وهو يستعرض حقيقة الوجود، وغاية المرء المتحفز للبقاء الحقيقي: "يولد الإنسان لكي يعيش، لا لكي يستعد للحياة"، صدق باسترناك ذاك بأنها زائلة لا تقبل الهدنة، لكن العيش يتطلب منا الكثير من العمل ، والموت يطلب أكثر . الموت الزائر الوحيد الذي لا يرحل وحيداً، الضيف الذي لا يغادر المكان إلا بصحبة أصدقاء ورفقاء دون اختيار. أعجب ما في الموت أنه يبدو مثيراً للرعب يتأبط الخوف والحزن، ويثني عطفيه على حرقة الخلي ولوعة الشجي، يلتف حول القلوب السابحة في فضاءات الحياة ليدفعها للهبوط إلى وهاد الغم وبيداء الهموم، لكنه في الآن ذاته يؤدبنا ويهذبنا ويربينا على معرفة حقائق الفضلاء، وشمائل الكرماء، ومحامد الأنقياء، بأنك تقول في وقت وجيز ما لم تقله في متسع الحياة، أنك تتأمل بإنصاف نوافذ الضوء التي بدت قبل الموت مغلقة، أن تتذكر العناوين الضخمة لمواقف صغيرة. الموت موسوعة للحكمة، ومدرسة للتجارب وموعظة للحياة، ما أصدق الموت حين يقبل ناطقاً وما أعظمه حين يدبر لاحقاً. إنك لن تجد أحضان الحياة دافئة وأنت (ترتقب) الجليد ولن تجدها آمنة وأنت (تترقب) الحرب ولن تجدها لينة وأنت (ترقب) الاعصار كل شيء تستطيع أن تضبطه على ساعة يدك إلا ساعة الموت، مهما بلغت قمم الأمل وسفوح الرجاء، منبه الساعة هذا لا يصرخ إلا عندما يتحرك زئبق الذهول عند نقطة الوصول، فإنه ما من شيء على وجه الأرض قادر على إظهار حقيقة الحياة مثل الموت. قال الحسن بن علي رحمه الله: "إذا سرك أن تنظر إلى الدنيا بعدك، فانظر إليها بعد غيرك". إننا لن نبدو أكثر صدقاً مع الذات ونحن نتظاهر بأن ما نسفحه على الراحلين دموع الحزن، وهي في الحقيقة قطرات من الخجل ومن عرق الحياء، تلك حالة من التسامي نحاول أن نتطهر عبرها من وهم التعمير وغفلة البقاء. رحم الله أبا تالا رحمة واسعة وأفاض على قبره شآبيب الغفران، وأسكنه فسيح الجنان، وألهم ذويه وأهله الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.