بقيت أمل في انتظار «الأمل» من القاضي ليحكم لها بالطلاق من زوجها «أحمد» الذي يكبرها بما لا يقل عن 50 عاما، وهي لم تزل في العاشرة من عمرها. ومع أن معيشة «أمل» اختلفت عما كان في بيت والدها كزوجة «ارستقراطية» تعيش حاليا بين الخدم والحشم، والأثاث الفاخر والسيارات المرفهة، إلا أنها لم تجد الراحة النفسية، حسب قولها، فأرشدتها إحدى صديقاتها بالتوجه إلى المحكمة لينظر القاضي في وضعها. قصة أمل وأمثالها من الصغيرات تحولت في زمن قياسي إلى «ظاهرة»، بسبب حب التمتع من الأزواج، وتطلع الآباء إلى المال، والضحية هن «أمل» ومن على شاكلتها من الفتيات القاصرات، حتى أصبحت أروقة المحاكم لا تخلو من قضية يومية على الأقل عند كل قاضٍ داخل المحكمة الواحدة. الظاهرة التي أصحبت قضية رأي عام، رفضها المجتمع وقاومها بصوت عال، كما يوضح ذلك المحلل النفسي ومستشار العلاقات والشؤون الأسرية والمجتمعية الدكتور هاني الغامدي، الذي أشار إلى أنها «ظاهرة عانت منها العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، بحجة أن تزويج البنت القاصر هو نوع من أنواع العفاف والحصانة، وتخلص من مسؤولية الشرف حسب وجهة نظر البعض من الآباء». زواج الغبطة الكثير من البلدان وضعت حدا من زواج القاصرات، وغالبا ما ترجع في قوانيها إلى بلوغ الفتاة الحلم، وهو ما يؤكده أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة الدكتور أبو بكر باقادر، إذ أوضح أن تلك القوانين «عادة ما ترجع في تحديد البلوغ إلى الاكتمال الجسماني والقدرة على الإنجاب، مع عدم إغفالها الناحية القانونية، كأن تكون الفتاة قد بلغت الحلم»، مشيرا إلى أن «البلوغ في معظم بلدان العالم ليس تقديريا، بل يجعلونه في سن الثامنة عشرة فما فوق». وتتفق القوانين الدولية في الوقت المعاصر مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية قبل 14 قرنا، وهو ما يبينه أستاذ الفقه المقارن في قسم الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور صالح بن غانم السدلان، الذي يؤكد أن «الشريعة الإسلامية لا تحتاج للمنظمات الحقوقية لتقنين العمر لزواج الفتاة، فهو مقرر شرعا». وأكد الدكتور السدلان أن «الفتاة غير البالغ ليس لوليها أن يزوجها حتى تبلغ وترضى، مع أن بعض العلماء استثنوا الأب في تزويجها دون سن البلوغ، إذا كان ذلك من يتقدم لها للزواج «غبطة»، أي لن يتقدم بعده أفضل منه، لكنهم اشترطوا عدم الدخول بها إلا بعد بلوغها سن الرشد، بشرط أن تستشار فإذا وافقت يمضي العقد، وإذا رفضت فهذا من حقها»، موضحا أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يعد «زواج غبطة»، لأن الزواج من النبي عليه الصلاة والسلام فرصة لا تضيع. طلاق مبكر ويعلق أستاذ علم الاجتماع الدكتور أبو بكر باقادر على حديث الدكتور السدلان بتوضيحه أن «بعض العلماء يرون أن ولي الأمر يستطيع أن يعقد نيابة عن وليته إذا كان مخولا بذلك شرعا، لكن المجتمعات الإنسانية تؤكد أن الظروف والملابسات والأوضاع الاجتماعية والظروف النفسية والصحية تقتضي أخذ الحيطة والحذر، خاصة أن أعباء ومسؤوليات الزواج تقتضي نوعا من النضج، وليس المسألة فقط إجراء قانوني أو شرعي، والفتاة قاصر وغير قادرة على اتخاذ العديد من القرارات خصوصا العاطفية منها»، مبينا أن «الكثير من الناس يرون أن القاصر ليس لها الحق في إبداء رأيها في زواجها، فولي أمرها هو من يتخذ القرار، فتجد لديها نظرة تخوف من هذا الزواج»، داعيا إلى النظر إلى المجتمعات المتساهلة في هذا الأمر، حتى أصبح هناك أمهات قاصرات، ولديهن الكثير من المشكلات. وطالب باقادر الأولياء بتحقيق الحد الأدني من الاطمئنان إلى حياة ناحجة في الزواج المبكر، مشيرا إلى أن بعض الدراسات أثبتت أن زواج القاصر قد يؤدي إلى طلاق مبكر، لعدم نضح الفتاة، وضعف القدرة على التصرف والسلوك، لما له من تبعات سيئة على الأطفال. انحدار عكسي وبالعودة إلى الدكتور هاني الغامدي للحديث عن الآثار النفسية للزوجة القاصر، فيوضح أن تلك الصغيرة «لا تستطيع أن تفهم الواجبات والمتطلبات الزوجية نفسيا وعاطفيا، فتتحول الممارسة عند بعضهن إلى تعذيب جسدي يفوق التحمل، مما يؤدي إلى عدم الوصول إلى الإشباع الفطري لديها، فتتأثر الذات لديها، ويؤدي ذلك إلى فقدان الإحساس بالأنا، وتبقى تبحث بشكل مستمر عن طرق للتخلص مما هي فيه من عذاب نفسي شديد بالهروب أحيانا، أو ربما يصل الأمر لدى البعض إلى التفكير في الانتحار وإنهاء حياتها التي فقدت المعنى الكبير لها حسب عقلها وتفكيرها، وما تعيشه من وضع يفوق تكوينها النفسي الذي مازال في طور النمو ولم يصل بها بعد إلى الجاهزية النفسية والعقلية التي تسمح لها بتداول أمور العاطفة والجنس بالشكل الذي يتناسب مع التطور في شخصيتها حينما تبلغ السن الذي يبدأ فيه الجسد والعقل والنفس بطلب التفعيل لهذه الجوانب في العمر الصحيح»، مشيرا إلى أن بعضهن يذهبن إلى «الانطوائية والتقوقع أو الدخول في حالات اكتئاب مزمن، جراء تحمل مسؤوليات الحمل والولادة في سن مازالت فيه لم تخرج من مرحلة الطفولة لتواجه مسؤوليات تفوق خبراتها في التعامل مع أمور وواجبات ومسؤوليات كبيرة، منها: روح مولود هي المسؤولة بشكل مباشر عن التعامل معه بما يبقيه حيا»، مؤكدا أنه «بسبب تحمل تلك المسؤوليات تفقد تلك صغيرة الإحساس بالأمان وتتردد في اتخاذ ما يناسب من قرارات حيال تلك المسؤوليات، لعدم وجود الثقة اللازمة للتعامل مع هكذا مسؤوليات، مما يؤدي أحيانا إلى حصول أخطاء تتسبب في فقدانها لحياة طفلها على سبيل المثال، أو التسبب في حصول عاهة له بسبب عدم الدراية أو الإهمال غير المقصود، وبالتالي تعلق تلك الحادثة في عقلها الصغير مما يجعلها تعيش عذابا مستمرا من تأنيب للضمير وإسقاط المسؤولية على نفسها». رفض الظاهرة أما المستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالله المنيع فيرفض مقارنة زواج القاصرات المنتشرة في الفترة الأخيرة بزواج عائشة، رضي الله عنها، من النبي صلى الله عليه وسلم وهي في التاسعة من عمرها، مبنيا أن أبا بكر، رضي الله عنه، عندما أراد أن يزوج عائشة لم يجد أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم لتزويجها ابنته، مشيرا إلى أنه «لا يمكن أن يقاس تزويج الأطفال اليوم بزواج أمنا عائشة رضي الله عنها لعدم تطابق الشروط والمناخ». وأكد المنيع أن زواج الأطفال أو القاصرات تترتب عليه مضار نفسية واجتماعية، مطالبا العلماء والدعاة القيام بواجبهم بالنصح والتوعية بخطورة مثل هذه الزيجات، والمضار العديدة المترتبة عليها والتي تؤدي إلى تقويض بناء الأسر المسلمة. موضحا أنه «ينبغي لأولياء الأمور أن يتقوا الله في أطفالهم ولا يقدموا على تزويجهم وهم ما زالوا صغارا، لأن الزواج مسؤولية ومن الخطأ تحميل الطفلة مسؤولية أكبر منها، وبالتالي تترتب على هذا الزواج مضار نفسية واجتماعية عديدة، لذلك ينبغي أن تؤجل الزيجة حتى تبلغ الزوجة وتنضج عقليا وبدنيا وتستطيع تحمل المسؤولية». زواج المصلحة أما أستاذة تاريخ المرأة بجامعة الملك سعود في الرياض الدكتور هتون الفاسي فقد أوضحت أن زواج القصر يعتبر من المخالفات الرئيسية لحقوق الإنسان وحقوق الطفل وحقوق المرأة، ويعتبر جريمة في حق الطفولة والإنسانية، موضحة أن موافقة الطفلة على الزواج ليست أمرا يؤخذ به نظرا لوجود الأطفال القصر في جناح، وحماية آبائهم الذين يستغلون هذه السلطة بشكل لا إنساني، مشيرة إلى أن تزويج الفتيات الصغيرات يتم عادة من رجال أكبر منهن سنا بعشرين وثلاثين وأربعين عاما دون تردد وأمام أعين المجتمع، مضيفة أن هذا يعد من وجهة نظري اغتصابا نظرا لعدم التكافؤ العمري ولا السلطوي ولا أي نوع من أنواع التكافؤ، مطالبة بتجريم هذا النوع من الزواج ومحاسبة الولي عليه، وبتحديد السن القانوني الأدنى للزواج سواء للفتاة أو الفتى بحيث يكون سقفه سن الثامنة عشرة. علقت رئيسة تحرير مجلة حياة للفتيات إيمان بنت عبدالله العقيل أن بعض مثل هذه الزيجات التي تتم بتبادل المصالح فإنها لا تحقق أساسيات الزواج، حتى أصبح أشبه بالصفقة التجارية التي يتزعمها العريس الميسور الحال مع ولي الزوجة الذي غالبا ما يكون رقيق الحال أو طامعا في المال، الفتاة الصغيرة الضحية في معظم الأحيان، لذا نجد أن مؤشرات انهيار الزواج واضحة منذ البداية، مشيرة إلى أن من عناصر انهيار هذا الزواج الفارق العمري بين الزوجين أو الاختلاف في المستوى الثقافي أو الفروق في المستوى الاقتصادي، مبينة أن فالفارق العمري مؤشر مهم في بناء علاقة زوجية ناجحة، فكل مرحلة لها اهتماماتها واحتياجاتها وأسلوب تعامل يختلف عن المرحلة الأخرى، وهذا لا ينفي وجود زيجات ناجحة متميزة رغم الاختلافات المذكورة، ومن أعظم وأجمل الأمثلة قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تزوج بالسيدة خديجة وهي تكبره بخمس عشرة سنة، وتزوج بالسيدة عائشة وهي تصغره بأربعين سنة، لكنه عليه أفضل الصلاة والتسليم كان زوجا ناجحا بكل المقاييس، فهلا أخذنا منه العبرة والقدوة في حياته مع زوجاته. زواج صحيح مع ما طرح من رؤى فإن الأمين العام للمشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج والمستشار الاجتماعي والأسري الشيخ فريح العقلا يعتبر أن تزويج الطفلة بالمسن أمر طبيعي وجائز شرعا، موضحا أنه عرف الكثير لمثل هذه الحالات يتمتع ذووها بكامل الراحة والرضا، لكنه يعيد القول بأن المذموم والممنوع هو أن يستغل ولي أمر الطفلة جهلها لنيل أغراض شخصية من ورائها، ومع ذلك فإنه يرى هذا الموضوع لا يستحق أن يعطى هذا الزخم لأنه لم يصل إلى مستوى الظاهرة، مطالبا بمناقشة مواضيع العنوسة وغلاء المهور لأنها الأهم. أما المدرس بالمسجد الحرام وعضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الدكتور علي بن عباس الحكمي أوضح أن الشرع وضع الولاية بيد والد الفتاة لأنه الأكثر حرصا مصلحتها، مشيرا إلى أن ذلك موكل بالشرع والطبع والعادة والعقل، لكن الصغر الذي يشرع فيه زواج الصغيرة أن يكون في حدود ما يسمى بالبيئة في المجتمع وطبيعتها، ومع ذلك فإن د. الحكمي يوضح أن هذا الزواج صحيح مهما كان صغر البنت، بشرط أن لا يدخل عليها إلا إذا كانت ذات أهلية للزواج، وهذا يختلف من بيئة لأخرى من حيث العادة والعرف، وقد تكون في سن التاسعة ويجوز الدخول بها أو العكس، أما من ناحية الجواز والمشروعية فإن الأمر موكول بأبيها أو ولي أمرها، لكن لا يجوز الدخول بها إلا إذا كانت البنت تطيق ذلك من الناحية النفسية والجسمية. ويعلق الباحث الشرعي والأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة القصيم الدكتور عبدالله بن عمر السحيباني جواز تزويج الصغيرة جاء قول الله تعالى: «واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إنِ ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن»، فجعل للائي لم يحضن عدة ثلاثة أشهر، ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من طلاق في نكاح أو فسخ، فدل ذلك على أنها تزوج وتطلق، يدل على ذلك أيضا صراحة حديث عائشة رضي الله عنها فقد قالت: «تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست و بنى بي وأنا ابنة تسع»، وبهذا يعلم صحة عقد النكاح إذا كان العاقد هو الأب وكان الزوج كفؤا للزوجة، ولا يشترط كما هو واضح في هذه الحالة رضا الزوجة فإن الصغيرة لا تدرك في مثل هذا الوقت، وحتى إذا بلغت الفتاة وكان الزوج كفؤا لها فإنه لا خيار لها أيضا على الصحيح، فلا يحق لها المطالبة في الفسخ، وهذا بخلاف ما إذا كان زواجها من غير كفؤ لها فإنه يكون لها الخيار، وكذلك إذا كرهت الزوجة الزوج بسبب نقص فيه كأن يكون كبيرا في السن، فيحق لها أن تطلب من زوجها الخلع، فإن رفض الزوج كان لها الحق في الذهاب للقاضي، وفي حال إصراره يقوم القاضي بإصدار حكم الفسخ، ويعقب بقوله: كل ما سبق في حكم العقد على الصغيرة، أما الدخول بالمرأة وجماعها فالحكم فيه يختلف، فلا يجوز للزوج شيء من ذلك حتى تطيقه الزوجة، أما إذا كانت لا تطيق فيحرم على الزوج ذلك. حق للفتاة مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبد الله آل الشيخ حذر الآباء وأولياء الأمور من تزويج بناتهم الصغار لأزواج كبار في السن يصل الفارق بينهما ما بين خمسين إلى ستين عاما من أجل المال، مشيرا إلى أن هذه الأفعال دليل على فساد ضمير هؤلاء الآباء وقلة حيائهم، وقال معقبا: إن الزواج حق للفتاة وليس لوليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الأيم حتى تستأمر»، قالوا: وما إذن البكر؟ قال: «صماتها»، مطالبا ولي الفتاة بعدم الانخداع بالأموال فيزج بوليته مع زوج قد لا يحصنها، وقد يفتح عليها آفاقا سيئة وشرورا عظيمة ما يعلم بها الآباء ولا الزوج.. وكان رئيس هيئة حقوق الإنسان سابقا تركي السديري قد اعتبر في وقت سابق أن حالات زواج الأطفال في المملكة انتهاك لحقوق الإنسان وشرخ واضح للمواثيق الدولية ولحقوق الطفل في عدد من الاتفاقيات الدولية التي وقعتها المملكة من جانب حرمان الفتى أو الفتاة طفولتهما، ودعا الأجهزة المعنية إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد لممارسة زواج الأطفال من خلال اعتماد موقف واضح لا لبس فيه على الأطفال والزواج القسري وسد الثغرات القانونية بين الجانب الديني والعرفي، مطالبا باتخاذ تدابير لرفع مستوى الوعي لدى الأسر حول الآثار السلبية لزواج الأطفال وإيجاد تدابير معقولة تضمن الأمان الأسري بالنسبة للفتيات، مضيفا: للمرأة الحق في قبول أو رفض الزواج، والرضا شرط أساسي لصحة عقد الزواج في شريعتنا فكيف يكون الأمر بالنسبة لطفلة في الصف الرابع الابتدائي لا تعرف عن أمور الحياة شيئا إن تعرضت لمثل تلك المواقف أو لا تسأل إطلاقا.