المرأة ربما لا تصل إلى مرتبة الحياد عند الرجل إلا عندما تظفر بلقب العجوز.. فيراها كائن إنساني غير محمل بالرتوش الأنثوية التي كانت محبوسة بها طوال رحلتها الزمنية. والمؤلم أن تمشي تلك المسافة حتى تنال كل هذا الحياد.الغريب في الأمر وهو ما حرضني على السؤال وطرح هذا المحور.. هي صورة العجوز في الأدب وتحديدا في التراثيات. فالعجوز تقترب من الشر أكثر من الخير. فهي مقرونة بصورة المرأة الشريرة/ الساحرة.. التي قد تلعب دور العاذل فتفرق العشاق وتفنن في نسج المكائد. كذلك نتذكر العجوز التي أشعلت حرب البسوس.. ونتذكر ذلك في قصص ألف ليلة وليلة ادوار شريرة تلعبها العجوز لا تنتهي.. وفي أدبيات التراث قد تصل العجوز إلى امتهان الأفعال المشينة. وربما أيضا في الحديث اليومي.. عندما تقال مفردة العجوز يتسرب من تلك المفردة الصورة شيء من التوجس أو الارتياب ربما يأتي هذا انعكاس لنمطية الصورة المأخوذة من أدبيات التراث.. بينما دورها العائلي في الواقع المعاش يتخذ طهرانية مبجلة فهي التي قد تكون الجدة/ الأم.. وبين صورتها المبجلة واقعيا وبين الصورة الشريرة التي تتناثر في التراث الأدبي بشكل عام كان هذا السؤال.. لماذا كل هذا الشر للسيدة العجوز؟ تقول الدكتورة لمياء باعشن : لا أعتقد أن الأمر بهذه الحدية، فأمثلة المرأة العجوز الطيبة موجودة بكثرة في الأدب أيضاً. لكن هذا لا ينقص من تحفيز السؤال على التأمل في ظاهرة قد تبدو غريبة. التلازم بين المرأة والشر لا يظهر فجأة وهي عجوز، فالمخيال الذكوري قد ربط بينهما في مراحل عمرية مختلفة، ذلك أن التكوين البطريكي والميثولوجي للمرأة كله تمثلات لما يحبه الرجل وما يبغضه وما يخشاه. ولهذا نجد أن صورة المرأة تتأرجح في الأدب القديم بين الفضيلة المثالية التي تصل إلى درجة التبتل العذرائي، وبين الرذيلة الرخيصة التي تطيح بالمرأة إلى درجات الدرك الأسفل من السلم الأخلاقي. معظم الأدب الذي وصل إلينا من العالم القديم كان أدباً ذكورياً أظهر النساء في ضوء سلبي وصورهن على شكل تهديد لسلطة الرجل ومكانه في الكون، وبهذه الحجة أبقاها بعيداً عن معترك الحياة لئلا تتسبب في خراب جديد. وخراب العالم مرتبط في الأساطير اليونانية بباندورا التي حلت بالأرض كلعنة وأحضرت معها صندوق الشرور الملئ بالأمراض والأوبئة والمآسي. المرأة في شبابها شريرة لأنها تكون امرأة فاتنة وشباك جمالها الخلاب تصطاد الرجل الغافل فينزلق في مزالق حبها الخطر. هذه المفارقة العجيبة بين قوة الرجل وضعف المرأة، ثم طغيان المرأة ووقوف الرجل أمام سحرها بلا حول ولا قوة لها حل أعجب، ذلك أن ضعف المرأة المزعوم يجعلها عرضة لاقتحام الشيطان عقلها وقلبها وجسمها فتصبح سلاحاً فتاكاً ضد الرجل، فهو لا ينازلها هي ولكنه ينازل قوى الشر التي تتملكها فيخسر معاركه حتماً أمام صنيعة إبليس التي تغلبت على معلمها كما في الحكاية الشعبية التي تبين تحدي العجوز لإبليس بأن فرّقت بين القماش وزوجته ثم أصلحت بينهما بالحيلة والخداع، بينما عجز إبليس عن فعل ذلك. قدرات المرأة الإغوائية إذاً تمكنها من سحب فريستها مغناطيسياً وكأن قواها غير طبيعية، وهكذا نشأ التشكيك في مصادر قوة المرأة، فهي ساحرة ومصاصة دماء ووحش وشيطان. وعندما تتقدم المرأة في السن تفقد الكثير من أسلحتها الخارجية السطحية الجاذبة في نظر الرجل، فتلجأ إلى تعويضها بالدهاء والخداع والتحايل والكذب للإيقاع بالأبرياء. تسربت كل تلك التراكمات عبر خطاباتنا التربوية فصاغت الثقافة بذور احتقار المرأة المتقدمة في السن وثبتتها في الذهنيات السائدة و تم التشهير بالعجائز في النصوص المتوارثة والترويع من مظهرن الذي ما عاد جاذباً للرجال، وحين تفقد المرأة صلاحيتها كما يتصور الرجل لا يبقى أمامها سوى المكائد والشرور والخبث. ينتقص الرجل من قدر المرأة في سن نضجها فيعيب عليها مرحلة ذبولها ويصفها بالعجوز الشمطاء، ويتصور أنها تشتعل غيرة من حسن سنو وايت وروبنزول وسندريللاالصغيرات اللواتي أخذن مكانها عند الرجل المحظي، فتندفع من شدة غيظها لإستعادة مكانتها عنوة وتستعين بقوى الشر لتكسب. ويصور الأدب أيضاً المرأة الناضجة التي تكسر النمط الذكوري باستقلاليتها كسيدة سواد (dark lady) تصعق الرجل كالقدر المحتوم، ونساء هذا النوع اللواتي يطلق عليهن اسم (femmes fatales)، يظهرن بكثرة في الأدب الغربي في بدايات القرن العشرين مثل: زنوبيا في رائعة هوثورن رومانسيات بليذديل، وديزي بيوكانون في رواية فيتزجيرالد جاتسبي العظيم، وماجي في قطة على سطح صفيح ساخن لتينسي ويليامز. هؤلاء النسوة الناضجات يهددن الدور التقليدي للمرأة فتصبح كل واحدة منهن بطلة مضادة anti heroine تمارس الحريات الرجالية وتخلخل المعيار الاخلاقي الأنثوي التقليدي. في التمثل السلبي للعجوز تمارس المرأة السحر الأسود ليظل السحر ملازماً لها، فتنتقل من سحر الجمال والاغواء إلى سحر الحجب والتعاويذ. تظل العجوز محرومة من القيام بدور هادف وإيجابي في السرديات الأدبية بينما تتفوق في أعمال السحر فتصبح في نظر الرجل رمز الدهاء والمكيدة، ستريوتايب لإمرأة متسلطة، مخيفة، ومنفرة: شمطاء وشريرة لأنها خارجة عن "طبيعتها".أما الدكتور إبراهيم الدغيري فقال : العجوز في العقل الواعي غيرها في العقل اللاواعي، فالعجوز يتم تقبلها وعيا وكرهها لا وعيا. إنها في الوعي الجمعي الأم المحترمة والجدة الموقرة والشخصية ذات الحضور المقدَّر على كل المستويات...غير أنها في العقل اللاواعي تمثل الفقرة النهائية من العمر، تلك المرحلة التي تكون فيها العجوز عالة، عالة من حيث الأمراض وكثرة الطلبات والتشكي من الحياة، كما أنها تمثل مرحلة الانصراف الجنسي، فهي لم تعد تحمل أي مثير يمكن أن يبعث على الاهتمام بها وذلك إذ تضمر فيها معالم النشاط الحسي الباعث على اللذات، وتخبو فيها أمارات النشاط المعنوي المحفز للرغبات. ولا شك أن فقد هذين المعنيين من أهم محفزات عدم الاهتمام النفسي والاجتماعي اللاواعي بها، كل هذا إذا افترضنا أن المتسيد على عرش الكتابة هو الرجل..وإلا ما الفرق بين العجوز و(الشايب)هذه محاولة تفسير نفسي.. وهناك محاولة تفسير أدبي فني: إن العجوز تتمتع بمواصفات فنية عديدة تجعلها شخصية يمكن أن يقال عنها إنها شخصية مكتنزة قابلة للتشكيل الفني وذلك من حيث إمكانية توظيفها في السياقات الإبداعية كيفما يريد المبدع، هي تشبه إلى حد ما شخصية المجنون-العاقل أو المتدين-الفاسق...أي أن المبدع يستغل شخصيتها ليمرر رؤاه من خلالها بحرية تامة وذلك لقاء ما تمتلكه العجوز من قدرة على التلوّن في الأدوار وتقمص الأفكار، فهي من الممكن أن تفعل الفعل ونقيضه وأن تنطق بالحكمة والهرطقة وأن تقوم بالتصرف الحسن والقبيح من غير أن يكون ذلك شذوذا في شخصيتها. وهي بالإضافة إلى كونها شخصية قابلة للتشكيل هي شخصية قابلة لأن تحمل العديد من الخبرات الحياتية المتعددة التي تستخدمها خيرا أو شرا، وهي إذ تستخدمها شرا فإنها تمارس نوعا من التعويض عن الأدوار المستلبة منها إذ كانت أنثى مكتملة الأنوثة، إنها تفتقد للأنثوية فتعوض عنها بالتأنث المستعار من خلال تقمص شخصية المرأة الشريرة التي تحفز على الفسق وتستخدم الشعوذة وتغذي الثارات بين المتعادين، وحين تقوم بتلك الأدوار -على يد المبدع طبعا- فإنها توظف الكلمات والأمثال والحكم التي تدعم مواقفها بالشكل الذي تريد. هذه محاولة مختصرة لتفسير ظهور العجوز في التعبير الأدبي بشكل يختلف عن الواقع.