إذا كان الوعي العام يأخذ مساره من خلال تماسه مع متداولي الأفكار أو منتجيها أو الضالعين في السجال حولها. فإننا مجتمع جدلي وسجالي بامتياز، ولكنه أقرب الى صناعة الكلام لا صناعة الأفكار، واجترار المقولات لا إبداع المنظومات. ولذا ليس من المنتظر أن يتشكل وعي عام قادر على بناء كتلة تتحدد خياراتها من خلال نتائج الحوار أو السجال بين تلك النخب. وربما تشكل وعي عام ممزق وغير قادر على تحديد رؤيته لأبسط مقومات الاختيار ناهيك عن مواجهة أسئلة المستقبل. أما أخطر أنواع السجالات وأقلها فائدة وأكثرها أذى تلك التي تتحول إلى عناوين صارخة تستهدف قلب الآخر، وإثخانه ناهيك عن رفضه وتقزيمه، وفي أضعف الأحوال تلك التي لا تعزز حضور نتائج في عقل المتلقي، ناهيك على القدرة على التوافق على الحد الأدنى من ملامح مشروع. ولذا تظل سمة الرأي العام السائدة الصمت والغياب، وأحيانا يصاب بعدوى الجماهيرية ذات النفس القصير، والانحياز للمفاهيم السهلة والعامة تحت ضغط التشويش على مقدرته للخروج من إطار الترديد إلى إطار الاستشكال وحالة السؤال عن أي مستقبل يريد؟ وحول أي معنى يتقاذفه المتساجلون.. ولا يُنتظر وحالة كهذه أن تتشكل مقومات يمكن أن تحرك الرأي العام ولو بإجماع ولو نسبي حول قضاياه الأساسية. وقد تبدو للبعض سمة السجال دليل عافية وحيوية ذهنية، وانهماك في البحث عن أسئلة المستقبل، لكن الحقيقة أنها كثيرا ما كانت أسيرة التفاعل ضمن منظومة تصفية أفكار الآخر، لا طرح الأسئلة الكبرى ومحاولة الإجابة عنها، وهي منهمكة في تصور متخيل لدور غير متحقق أصلاً، تدافع بين الحين والحين عن حصونه، التي لا معالم لها ولا حدود ولا عناوين سوى تلك العناوين الكبرى التي تستدعي من الإرث أو التاريخ أو الجغرافيا أو حالة انبهار بمعطيات الآخر، حتى الوقوع في سجن الدهشة وإعاقات الخروج بمنظومة لها صفة المشروع لا حالة انبهار فقط، أي أن كليهما إثخان في الآخر، والنتيجة العودة لنقطة البداية. تأخذ بعض سجالات الداخل بين تلك النخب عناوينها من أحداث الخارج، تفاعلا قبولا ورفضا واستدركا، وغالبا يكون تأثيرها أكبر عندما تصبح تداعياتها تسوق الأسئلة الأكثر أهمية والتي نقف منها موقف المتأثر. لكنها تشتعل كحالة وقتية في فترة زمنية ثم تخبو.. وربما اشتعلت حرائق سجالية على أثرها ثم لم يعد هناك سوى الرماد.. أي ما يتحقق نقاط صفرية.. حتى تستعاد ملامح السجال مرة أخرى بأثر أو تأثير آخر.. أى إن حتى في دائرة السجال موقفنا هو موقف المتأثر لا المؤثر، والمُستدعي لحالة دفع لا الباحث عن مشروع يتمحور سؤاله حول: أي مستقبل نريد؟. وتبقى المشكلة الكبرى في سجالات النخب أنها داخلية تشتعل في أحداق المثقف أو المتابع أو المهتم في فترات قصيرة عبر واجهة المع والضد. السؤال أي منها قاد يوما لبرنامج أو رؤية أو توافق في حدود دنيا يمكن أن تشكل إنجازا في طريق طويل عنوانه البحث في أسئلة المستقبل، ومحاولة الإجابة عنها والتوقف عند ضرورتها وحتميتها واستحقاقاتها. وفي كثير من ذلك السجال الثقافي مازلنا نستعيد أسئلة النهضة الأولى، لأن أدوات السجال مازالت أسيرة مفاهيم لم تخرج بعد من شرنقة ثنائيات الأصالة والمعاصرة، والحداثة والسلفية، والتقليدية والمواكبة، وهكذا تترنح الأسئلة حول قضايا قديمة/ جديدة توحي بأننا منذ أكثر من مئة عام لم نتحرك سوى في دائرة السجال مع وضد، فما زال رفاعة الطهطاوي حاضرا، ومازال عصر محمد علي يلقي بظلال البدايات، ومازالت آراء الشيخ محمد عبده والكواكبي وجمال الدين الأفغاني وعلي عبدالرازق والمودودي يتم استدعاؤها لواجهة السجال.. مازالت طبيعة التعاطي من المستقبل ملفوفة بغلالة الممانعة تحت خوف وقلق متخيل أو حقيقي وتحت يافطات بلا تفاصيل، مجرد عناوين كبرى تحكم صراعا بين رؤى نظرية عامة لا تفصيلة محددة، ولها سمة البرنامج والنظام، ولم يحقق أي منها خطوة في طريق يتسم بالمشقة وحتمية التراكم والبناء المستمر. يعاود اليوم الجدل حول مسألة الديمقراطية، وبين خصومها ومريديها، فتضيع قيمة الديمقراطية أصلا، فلا التيار المناوئ لها قدم مشروعاً يمكن الوثوق بملامحه لحل إشكالية قديمة جديدة أو متجددة، ولا المريدون تمكنوا من إحراز نقاط في طريق طويل يحقق هدفا أن يتحول الرأي العام إلى مشارك في مسألة تطال أسئلة المستقبل. لم تحسم المسألة نظرياً على مستوى الجدل ولم يكن السؤال أي ديمقراطية نريد؟ لكن السؤال يعاود البحث هل نريدها أصلا؟. السلطة و حدها كانت قادرة على حسم جدل السؤال عندما قدمت مشروعها لانتخابات بلدية شارك الجميع في لوائحها وعمل ما في وسعه للاستفادة من معطياتها، وحشد ناخبيه وقدم مرشحيه، ولم يعد لأصل المسألة النظري أو يقف موقع الممانع، إنها براجماتية الانهماك في الفرص المتحققة تحلها قيادة تدرك حجم كلفة المستقبل وتترك الجميع يعيد ترتيب أوراقه للحاق بها. السجال الفكري مؤشر إيجابي وعلامة عافية، لكن ضمور نتائج هذا الجدال حد الخصومة والاستعداء، وتواضع النتائج وإشعال البخور حول تلك السجالات لن يكون سوى علامة رديئة لعدم قدرتنا على تحقيق ولو حداً أدنى من الإجماع حول أي مستقبل نريد؟ قضايا المستقبل الكبيرة، وتتطلب حتمية التجاوب معها لا الهروب من تبعاتها. ألا يدرك هؤلاء وهؤلاء أننا أمام استحقاقات تاريخ له مكره وحتميته. ماذا سنحقق في مجتمع له همومه ومشاكله وقضاياه وتطلعاته إذا ظلت تلك السجالات تتحرك في دائرة إثخان الآخر. هل يتصور فريق الممانعة انه بمنأى عن مشكلات تتفاقم اجتماعياً وتتطور تبعاتها كل يوم. ما هو مشروعه الاقتصادي والاجتماعي المستجيب لضرورات المستقبل، وما هو موقفه من قضايا الحاضر والمستقبل بما يتجاوز طريقة استعادة كل الأزمات لعناوين كبيرة بلا قدرة على اجتراح منظومة محددة مستجيبة تواجه تلك الأزمات. ما هي رؤيته للمستقبل.. أي مشروع انساني وثقافي واجتماعي واقتصادي يمكن أن يقدمه للناس حتى يمكن مناقشته وبحثه، وعندها يمكن القول إن ثمة فاعلية لا حالة ممانعة ورفض. ألا يرى أن حالة الممانعة والرفض والجمود لا تعني إلا أنه سيفقد يوما موقعه عندما تصبح الأزمات أكبر من مستوى قدرته على الممانعة، ووقتها سيفلت منه زمام المبادرة لأنه خارج التاريخ وخارج دائرة المستقبل الذي حل بأزماته وشروطه وعناوينه التي لم يقدم لها شيئا يذكر عندما كان يستطيع فعل ذلك. ومن باب الانصاف ايضا في سجال الديمقراطية، أن الذي يقف منها موقف الممانعة ليس هو فريق التوقف تحت مفاهيم دينية يقرؤها بطريقته و يروج لها. إذ أن حتى بعض النخب من الفريق الآخر الضالع في سجال دائم وإدانة دائمة لفريق الممانعة والرفض يمارس دوراً انتهازياً فهو لا يتورع عن الدعوة إلى إضعاف فكرة الشرط الديمقراطي حتى لا نخضع لسيكولوجية الجماهير التي تستجيب بسهولة للفريق الآخر. وتأتي دائماً مسألة تعزيز حقوق الإنسان وحريته شرطا متقدما على فكرة الاختيار عبر الواجهة الديمقراطية. وكأن هذا الهلام الثقافي هو من سيقدم هذا الشرط ويحققه قبل أن يأذن أولئك بالدخول من بوابة الديمقراطية. وماذا يعني أن تأتي الديمقراطية بأي من الفريقين لواجهة النيابة، أليس هذا هو الاشتراط الديمقراطي بتقبل نتائجها والعمل من خلالها والمراهنة على إصلاح نفسها بنفسها، خاصة ونحن نتحدث عن دولة مؤسسات لا يمكن أن تترك مستوى الصلاحيات حتى للمؤسسات الديمقراطية مفتوحة إلا بشروط الالتزام بثوابت لابد من المحافظة عليها ولديها صلاحيات كبرى لمواجهة اساءة استخدامها صلاحيات الديمقراطية. ام أن الاستجابة لشرط التقدم على مصاعد الديمقراطية لن يتأتى إلا من خلال إحراق الآخر أولاً، حتى يمكن ضمان نتيجة انتخاب. المذاهب الدينية والفلسفية والفكرية تصوغ أفكارها وفق مرجعياتها وإذا قدر لنا أن نكون أمة عقائدية ولها منهجها ورؤيتها للحياة الا يمكن صياغة مشروع قادر على الاستجابة لحق الإنسان بالحياة. أم أن وظيفة فريق جدل الممانعة التوقف فقط عند حدود اجهاض مفاهيم يرجى أن تقوى على الحياة وتؤسس فعلا لحالة يتحول فيه الرأي العام الى مشارك في صناعة المستقبل عن طريق اختيارات يتم اختبارها وتجريبها ومواءمتها. أم ان التوقف والابتهاج بحالة تلقيم أفواه الخصوم بتلك القذائف المفحمة هي دليل كبير على الاستهانة بأسئلة المستقبل وشروط الحياة فيه ومواجهة مشكلاته. يتحول السجال حول الأفكار الى صراع حول المراكز والعلاقات والنفوذ والحضور بوعي أو بدونه.. وتطل أحيانا المسألة الفكرية على واجهة السجال لكن تخفي خلفها تمركز نفوذ ومكتسبات في ثنايا العقل لا يتجاوز شرنقة التوقف عند محددات عامة بلا ضوابط، وعناوين سخية بلا آليات، واستدعاء للإدانة بلا مقومات البناء.