تبدو مصر هذه الايام مختبر كبير لاكتشاف أزمة الديموقراطية في العالم العربي، فهي البلد العربي - الأكبر - الذي تتفاعل فيه على الملأ توجسات ناخب، وصراخ نخب، وتخبط برامج، وانكفاء احزاب وصعود تيار، فيها مقومات الحراك الشعبي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وفيها خيبة أمل النخب أو ممانعتها لملامح تحول ولو جزئي.. فيه أحلام الخروج من شرنقة الاحتباس القاتل لفضاء الاختيار الممكن أو المتاح.. وفيه قلق من ملامح تحول ولو جزئي لصالح نتائج صندوق اقتراع مازال يخضع للتأثير - خارج ارادة الناخبين - بشتى الطرق.. فيه صراخ من أجل التحول الديموقراطي وفيه رفض قاطع لنتائج الديموقراطية.. فيه صراخ عال من أجل حقوق الأقليات، وفيه انتهاك لحقوق الاكثرية لانها اختارت من يمثلها. أعتقد ان مصر أكثر بلد عربي قابل للتحول الايجابي والتدريجي من الداخل إذا استمر تطوير العمل السياسي وفق ملامح مشروع أو برنامج أو أجندة ولم تتوقف عن حدود ما تم انجازه، ومختبر الانتخابات البرلمانية في مصر يتحرك باتجاه تكوين كتلتين كبيرتين، احدهما بطبيعة الحال للحزب الوطني الحاكم، والآخر كتلة نواب الاخوان المسلمين.. التي وان كانت قادرة بسهولة اليوم على حيازة ربع مقاعد البرلمان، ومهما كان تأثير هذه الكتلة فهي لن تكون قادرة - كما يوحي من افزعتهم تلك النتائج - على قلب الأوضاع في مصر إلى مستوى ان يهدد الدكتور ميلاد حنا باستعداده لحزم حقائبه والرحيل عن مصر ما إن يصل الاخوان إلى السلطة.. وكأن تلك النتيجة قادرة على زعزعة مقومات التعايش الإسلامي - القطبي في مصر أو باستعادة تأثير أدبيات لا تتبناها الجماعة اليوم ولا تعد برنامجاً لها.. ومن هنا تأتي أهمية البرنامج الذي على الجماعة ان تطرحه لمستقبل رؤيتها لمصر، يتخذ طابع المشروع لا طابع الشعارات الانتخابية. جماعة الاخوان المسلمين بدأت حركة دعوية، لا حركة فكرية، وارتبط تاريخها بأخطاء لا يمكن ان نفهمها الا من خلال قراءة تاريخ الحركة وظروف نشأتها على يد مؤسسها حسن البنا، مروراً بكل التحولات التي احاطت بها حتى اليوم، وفي أغلب القراءات التي تتخذ موقفاً من الإسلام السياسي في مصر، يتم التركيز على التنظيم السري، وتفريخ جماعات الإرهاب، وأدبيات الإسلام الاقصائي.. التحدي اليوم امام الحركة كبير، يأتي في مقدمته الاعلان عن مشروع سياسي، وتبنيه واشراك الجميع في فهم توجهات الجماعة من خلال رؤية استراتيجية لا نقلة تكتيكية.. وأعتقد ان مبادرة مرشد الحركة لدعوة الاقطاب القلقين من نجاح الحركة في احراز هذا الفوز الكبير إلى حوار موسع، هو عين الصواب إذا ما كان في سبيل تأسيس مشروع لا محاولة احتواء فقط. واعتقد ان التأمل في التصورات التي تطرحها الحركة اليوم جدير باستعادة فهم، إذا امكن التخلص من هاجس التقية أو الانتهازية السياسية التي يبرع مناوئو الحركة في الترويج لها لتعطيل الثقة بأي مقدمات لمشروع تحول ممكن. نائب مرشد الجماعة محمد السيد حبيب قدم تصوراً فضفاضاً - بلا تفصيل - لكن يكفي لفهم ان الجماعة تعود اليوم لتقترب أكثر من ملامح مشروع اصلاح ليبرالي أكثر منه وفياً لجملة تصورات ماضوية لحكم مصر، هل يمكن ان يقف أي من دعاة الإصلاح السياسي في مصر وغيرها من بلدان المنطقة من مفاهيم سياسية تتحدث عن حكومة من اختيار الشعب بارادة حرة عبر صندوق اقتراع، والقدرة على محاسبة الحكومة على برامجها التي طرحتها امامه ووعدت تنفيذها، هل يمكن رفض التداول السلمي للسلطة عبر صندوق اقتراع، هل يمكن رفض اطلاق الحريات العامة وكفالة حرية انشاء الاحزاب على اختلاف انتماءاتها وحرية الصحافة والفكر والابداع، حتى لو استدرك السيد حبيب وقال انها تبقى في نطاق المقومات الاساسية للمجتمع وحدود النظام والآداب العامة. هل يمكن رفض الغاء المحاكم الاستثنائية وقانون الطوارئ، واستقلال السلطة القضائية والافراج عن سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين.. هل يمكن رفض الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية.. اما في مسألة الاقباط الا يكفي ان يشدد انهم مواطنون لهم كافة حقوق المواطنة وهم جزء من النسيج المجتمع وشركاء وطن وقرار ومصير ولهم الحق في تولي الوظائف العامة. عصام العريان القيادي البارز في جماعة الاخوان المسلمين كان اقرب إلى مس واقع الجماعة اليوم بحكم انها اليوم في مربع معارضة، وان التداول السلمي للسلطة يمكن ان يحدث مستقبلاً إذا استمرت وتيرة التحول الديموقراطي بضمانات تكفل دورانها باستمرار بين القوى السياسية بحيث لا تنفرد قوة بالسلطة وتستبد بها، وهو يؤمن بأن النضج السياسي والتطور الديموقراطي سيفرضان على الجماعة وغيرها التصرف بمسؤولية كبيرة تجاه الملفات الحساسة والشائكة وانه لا يفيد بحال الاستشهاد بتجارب حركات إسلاميةاخرى وصلت للسلطة بطرق ثورية أو انقلابية لأن النموذج المصري سيكون مختلفاً تماماً. رغم كل هذه الاشارات انها لا تكفي لمن يستبد بهم القلق في صعود الجماعة، التي اصبحت بحكم الواقع ونتائج صندوق اقتراع هي المعارضة الأكثر تنظيماً والاقوى والأكثر قدرة على الاستحواذ على ورقة ناخب لا يخضع للضغوط من أجل تمرير صوته. ورغم كل اشارات التطمين التي يبعثها قادة الاخوان، إلا أن صخب الاحتجاج على نتائج فرز مازالت تعزز أزمة خطيرة في عقلية كثير من النخب العربية التي تقاتل اعلامها من أجل الديمقراطية لكنها تكون اول من يرفض نتائجها إذا جاءت على غير ما تشتهي. تساءل الصحفي المصري عبدالمنعم مصطفى: إذا كان الاقباط لا يريدون الاخوان والحزب الوطني الحاكم لا يريد الاخوان، والليبراليون واليساريون والناصريون وكلهم لا يريد الاخوان.. فمن الذي يصوت للاخوان؟ يبدو لي أن اجابة سؤال كهذا اسهل من مشقة التساؤل ذاته، إذا عرفنا التكوين الثقافي للمجتمع المصري اليوم وعرفنا كم يشكل هؤلاء من نسبة في محيط مأزوم إذا لم يكن يبحث عن حل فهو يمارس حقه بالرفض وهو يفتقد الثقة بالمعارضة ناهيك انه لا يشعر بوجودها اصلاً.. هذه الحقيقة عبر عنها حازم عبدالرحمن في مقالة في الاهرام فهو يقول ان المواطن المصري اليوم الذي يذهب إلى صندوق الاقتراع لا يجد امامه سوى الحزب الوطني الحاكم أو جماعة الاخوان، أما الاحزاب الاخرى فهو لا يكاد يسمع بها إلا من خلال الصحف أو التلفزيون.. لكنه اشار إلى نقطة أكثر أهمية وهي أن أهم ميزة لمرشحي الاخوان هي خدماتهم التي يقدمونها للناس العاديين والفقراء في الضواحي والاحياء الشعبية. اعتقد ان الأكثر أهمية فيما يفرزه هذا السجال الانتخابي اليوم في مصر مسألة في غاية الاهمية لا تعني مصر وحدها وانما المنطقة بأكملها، الاوهي تلك النزعة التي تفضح حالة تناقض أبدتها مواقف تلك النخب من ليبراليين ورموز قبطية ويساريين وقوميين وناصريين، فيما تقول تلك النخب انها تريده وتتحرك من أجله ترفض ما يأتيها عبر صندوق اقتراع - هو الآلية الوحيدة لتحقيق ما تريد - بل ان كثيرين غرقوا في نظرية المؤامرة لدرجة اتهام النظام بأنه سمح بتمرير الاخوان عبر صندوق اقتراع استجابة لضغوط أمريكية.. أي انهم اصبحوا - بشكل أو بآخر جزءاً من حالة استعداء على نتائج فرز فقط لانها لم تكن في حساباتهم. هذه الحالة تتكرر في أكثر من مشهد عربي، وهي ذات ابعاد تتجاوز قصة مؤامرة أو حالة استعداء على نتائج صندوق اقتراع إلى حالة أزمة بنيوية في عقلية عربية - ليبرالية لا تؤمن بالتحول سوى عبر مشهد لا ترى سواه. لم افهم حتى اليوم لماذا القلق الكبير الذي استبد تلك النخب إلى مستوى رفض الجانب الايجابي في تلك النتيجة التي ستحد من الهيمنة الحزبية المطلقة تحت قبة برلمان.. وتنشيط ذاكرة معارضة قادرة على تفتيت حالة تكلس وارتخاء في منظومة العمل السياسي.. ومن هنا تبدو النظرة الغربية لواقع المجتمع العربي والإسلامي اكثر اقتراباً من ملامح تحول من نظرة تلك النخب، فهي وان كانت تحذر من نزعة إسلام سياسي متطرف إلا انها ترى في المجمل ان الإسلام السياسي جزء مهم في عملية التحول قابل للاحتواء ضمن صيغة وقيم تعددية محروسة وكأنها تفهم المزاج العام وتقبل بخياراته وتقدر مفهوم العمل الحزبي الذي تأتي قواعده من الشارع لا من ترف تلك النخب وتنظيراتها الإعلامية التي تستدعي ممانعة تحول لمقاومة خيال استبداد تصوره انه الكارثة الحتمية في خيارات التحول الديموقراطي الوليد. يملك الإسلام السياسي في المنطقة ورقة مهمة، ويملك منظومة من الكوادر المتبتلة في مشروعه، لكن هذا المشروع لن يمر بسلام بدون تفاصيل ومحاولة احتواء القوى الاخرى وإدارة حوار مختلف مبني على قيم اساسية في عملية التحول الديموقراطي.. واشاعة خطاب حقيقي مبني على رؤية ومشروع مكتوب ومتوافق عليه.. لا يكفي حشد الشارع اليوم، فلهذا الشارع حساباته أيضاً التي ربما خذلت خطابا يداعب مشاعر وعواطف وقيم كامنة في ثقافة المجموع، عندما تتحول المسألة من حالة خطاب إلى حالة إدارة كيانات أكثر تعقيداً من تصور أو ترويج منظومة قيم.. حيث تصبح البرامج السياسة والاجتماعية والاقتصادية على محك التطبيق لا فوضى الشعارات وهي تواجه استحقاقات لا تنتظر.