تباينت المواقف بين الدول العربية في منتدى المستقبل، وسيكون اختلاف الأمة رحمة حتما لو كانت مواقف مبنية على حسابات الداخل لكنها مزيج من العوامل الخارجية الضاغطة والداخلية المحتقنة ومحاولة للهروب من مأزق الداخل للبحث عن مشروع اصلاح بلا عناوين أكثر إغراء للسائل الوطني. في منتدى المستقبل الذي عقد في الرباط بمبادرة امريكية بهدف البحث عن إحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير وشمال افريقيا، كان ثمة انقسام في الرؤية أو على الأقل في الخطاب .. فالرؤية مسألة مؤجلة، تمتد وفق حسابات الآخر والأنا دون بلوغ مأرب الاصلاح المنشود. المشروع الامريكي حول الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط الكبير مثير للجدل، لكن المثير للجدل أيضا، هذا التباين في الخطاب العربي، فبعض دول الشمال الافريقي العربية - تونس والمغرب تحديدا - مع المبادرة وفي ظل الدعوة لاجتراح معجزة اصلاح، تمسك العصا من الوسط وهي تميل لكفة المعادلة الدولية - الأمريكية - أمام ممانعة دول الشرق العربي التي تشدد على الربط بين حل الصراع في فلسطين وإنهاء المشكل العراقي وترك المنطقة لاصلاح ذاتها وفق رؤيتها وثقافتها وخصوصيتها دون تدخل خارجي، يفرض أجندة اصلاح فوقية لا تراعي هذه الشروط التاريخية في عملية مؤجلة على الدوام. في منتدى المستقبل ثمة أكثر من سؤال وأكثر من عنوان وأكثر من دليل على ان المرحلة لا تحتاج إلى ممانعة التحول، للحفاظ على نسيج كشف للعالم ان المنطقة حبلى بالمخاطر وان الاصلاح الحقيقي لابد آت حتى لو كانت الممانعة تنسجم مع عقل شارع عربي لم يتعود ان ينظر سوى بالريبة لأي فكرة اصلاح فقط لأنها جاءت بدعوة من الخارج .. وممن ؟ من القوة الأكثر كراهية في عالم العرب والمسلمين اليوم .. وهي تحاول إنفاذ صيغة عجول لإعادة صياغة ثقافة تلبستها عقود وقرون من أفكار الاستحواذ والقمع والكراهية للمستعمر والشك بكل خطوة يدعو لها وهو لا يرى سوى الأسى في فلسطين والعراق وكل مشروع تحاول تلك القوة ان تغمس يدها في فيه. إذا كانت معاهدة برشلونة عام 4991م بين بعض دول الشمال الافريقي وأوروبا التي تستهدف بناء شراكة أورومتوسطية، اهتمت بالتأثير الشمال الافريقي على مستقبل الجنوب الأوروبي وحاولت ان تضع معادلة تبادلية اقتصادية بالدرجة الاولى وسياسية بالدرجة الثانية في محاولة لتأسيس شراكة تمكين لا شراكة تحالف، فإن المبادرة الأمريكية للشرق الأوسط الكبير التي دمجت بالمبادرة الأوروبية لم تظهر إلا على وقع احتباسات الداخل العربي والاسلامي لمواجهة أسباب اليأس والاحباط وصولا الى ابراج منهاتن التي هزت القناعة الامريكية بأن عوامل اليأس والاحباط والتدرع بالذات والانكفاء على التاريخ لن يسبب سوى المتاعب للغرب، ولن ينجو منه لا شركاء المتوسط ولا القابعون هناك في قارة بعيدة حتى وصلتهم حرائق نيويورك وواشنطن. يقول كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في وصف منتدى المستقبل بأن لقاء تاريخيا تكلل بالنجاح - وهذه عبارة دبلوماسية رشيقة - لكن الأهم انه يوجه اي هذا المنتدى لمواجهة «أسباب اليأس» التي يستغلها الارهابيون (من اجل القضاء على المتطرفين المجرمين الذين يحيطون بنا لابد لنا ان نعمل معا من أجل مواجهة أسباب اليأس والاحباط التي يستغلها الارهابيون). ولا يريد الوزير الأمريكي ان يضيع الوقت في جدل حول نمط الاصلاحات .. فالمهم أن تدور العجلة لمواجهة التهديد الارهابي الذي يضيف حسب المفهوم المتسقى من الوزير الى مؤدية الكثيرين في حال تراكم الأسى والاحباط وتغلغل ثقافة الكراهية وقبل كل هذا الاحتباس الداخلي الذي لن تفك عقدته سوى اصلاحات ديمقراطية سواء كانت البداية بالاقتصاد او السياسة او الاجتماعية المهم ان تدور العجلة دون تأجيل. للعالم لا الولاياتالمتحدة الحق في القلق من بطء الاصلاح المنشود في المنطقة، خاصة وان التشخيص الذي يربط بين اليأس والاحباط والعوامل الضاغطة على مجتمع الأمية العربية والتخلف والعجز والفقر، قادر على ادخال جزء كبير من الاغلبية الصامتة في مقاومة شرسة وقاتلة وموجهة للغرب .. ولن تكون أحداث مانهاتن او الدارالبيضاء او مدريد او اسطانبول او الرياض سوى مؤشرات على حجم العداء للغرب والنزعة المهيمنة على صناعي الارهاب لا نزال الفوضى في المنظومات السياسية القائمة اليوم. وللدول العربية - حكومات أو شعوبا - ان تكون حذرة من خطوة فرض اصلاحات على مجموع عاش عقودا من القهر وأعاد انتاج ثقافته بطرق شتى أو في ظل ثقافة غير قادرة على استيعاب تحول قد يرتد عكسياً على الاستقرار المنشود. وثمة التباس خطير، أثير سؤاله في كل خطوة الدعوة للاصلاح في المنطقة، الا وهي الانحياز الامريكي للمشروع الصهيوني الذي ترك الجرح غائراً في فلسطين وفي قلب كل عربي ومسلم يشاهد كل يوم هذا المسلسل البشع لمصادرة حق الانسان الفلسطيني المظلوم منذ أكثر من نصف قرن وهو يتعرض للاضطهاد وبشاعة المصادرة واشاعة كل عناوين القهر واليأس. تدرك الإدارة الامريكية اليوم ان عوامل التطرف والعنف والإرهاب لن يتم تجاوزها ما دام الوضع الفلسطيني كما هو اليوم .. عامل انتاج لكل عناوين القهر التي تتوجه حتما بطريقة او بأخرى للبحث عن مشروعية مقاومة الهيمنة الامريكية الضامن لأمن وسلام واستقرار وتفوق وهيمنة اسرائيل، لكنها لا تفعل الكثير سوى مواصلة الضغط على الفلسطينيين للقبول بما تجود به اسرائيل بعدم تقديم شهادة براءة من المقاومة الفلسطينية المسلحة التي لا تفرق الولاياتالمتحدة بينها وبين الارهاب .. وهنا تكمن عقدة الوجاهة في الممانعة التي بات حتى الأروبيون يدركون حرج الضغط حول الاصلاحات وهم شهود هذا المسلسل الدامي الذي يسحق الفلسطينيين كل يوم دون بارقة أمل في نيل حقوقهم المشروعة. لم يكن لا الامريكان ولا الاوروبيون حريصين على حريات الشعوب او اصلاح أوضاعها سوى لأن اجندة المستقبل تحتم اليوم تلافي عوامل القهر واليأس التي بدت تدق أبواب الغرب من كل جهة وتهدد استقرار العالم ومصالحهم فيه. لكن مع كل هذا تبقى الشعوب مدينة لمكر التاريخ لا لعطف السادة الأوربيين أو الامريكيين على أحوالها .. وتبقى المنقطة اليوم بين خيارات لابد من التعامل معها بطريقة تضمن ان يكون الاصلاح حقيقياً وموجهاً لخدمة المجموع لا لخدمة الظرف التاريخي الذي تشهده المنطقة من أقصاها الى أقصاها. في سؤال الاصلاح لا تكفي الممانعة ومقاومة هذا التوجه الدولي والضغط المتواصل بالتذرع ان هذا شأن داخلي بحت، فهو حقيقة شأن داخلي، لكن الذي يسحب البساط من هذه الضغوط اجتراح معجزة اصلاح حقيقي لا مؤسسات ديمقراطية شكلية، والذي يعيد للأمة قوتها وقدرتها حتى على مواجهة المشروع الصهيوني هو العمل الجاد وفق أجندة اصلاح تقوي الداخل ولا تضعف تماسكه، وتقوي اقتصاده ولا تستنزفه، وتعيد القدرة لانسانه على المشاركة لا السلبية والانتظار القاتل لحلم لا يأتي، والاصلاح هنا ليس استجابة لرؤية غربية انه أيضا قبل أي شيء آخر استعاده انسان ومشروع ثقة بالدولة ومشروع مجتمع مدني وكل التفاصيل التي تضمن الوصول الى هذه الصيغة لن يكون من بينها ثقافة محلية أو وطنية او خصوصية ذرائعية .. فالمشاركة الشعبية الواسعة، إقرار دور المؤسسات، واطلاق حرية التعبير والمساءلة، وادماج المجموع في مشروع وطن يستوعب الجميع تحت ظل قوانين ونظم محترمة وقضاء مستقل ونزيه والخضوع لرغبة الاغلبية التي تتعلم من فن المشاركة اليوم القدرة على تأسيس صيغة المستقبل التوافقي في الغد، واطلاق طاقات الابداع واحتضان المشروع الانساني ليكون واجهة وطن، ليس كل هذا مجرد عناوين براقة للاستهلاك المحلي .. فهي اما ان تكون حقيقية ملموسة ومعترف بها وممارسة يومية أو لا تكون سوى واجهات دميمة لن تجد أياً من المجموع يعترف بجدواها وحينها سنتحين كل فرص الاضطراب والعمل خارج النسق وعلينا تحمل مسؤوليات التقويض والهدم حينها. مشكلة الذين يرفضون دعوات الخارج، انهم لا يقدمون أجندة مشروع في الداخل، من الحق القول ان ثمة حواراً في اكثر من قطر عربي، وثمة انفراج سياسي نسبي ولكنه ضئيل وبطيء التحول، وثمة محاولة نظرية، ومحاولة ابتدائية، لكن هل هذا يكفي، ليس من الاغراء ان نقول ان ثمة برلمانات عربية وأحزاباً معارضة ومؤسسات مجتمع مدني في بعض الدول العربية، فهي هنا للأسف لا تعدو ان تكون مؤسسات تخضع للسلطة بشكل او بآخر أو انها بلا فاعلية، او ان دورها لا يعدو ان يكون تمثيل مشروعية لمن لا مشروعية له .. علينا ان نكون واضحين في مناقشة هذا الامر ولا نهرب من مواجهة استحقاق لنعدد مظاهر ديمقراطية او مشاركة شعبية، لم تتبلور اليوم عن حزمة اجراءات حقيقية تضمن إبداعا حقيقيا في تسيير المجتمعات العربية الخاضعة للجمود والسلبية والتوقف عن الحركة من مقاربة مشروع اصلاح حقيقي يترتب عليه نتائج ملموسة يمكن قياسها في كل مرحلة. رفض أجندة اصلاح تأتي من الخارج الذي لا يدرك أبعاد الثقافة المحلية والخصوصية التاريخية أو بحجة التباس مشروع أمريكي بكل ظلامات مشاريع الهيمنة والاخضاع مسألة لا خلاف عليها، لكن غياب أجندة الداخل وتفاصيل المشروع الاصلاحي وجدولته زمنيا والسعي لاقراره لتحقيق الصالح العام، وتقوية الداخل لمواجهة كل عواصف الخارج سيظل ايضا محل وتساؤل وربما ادانة مستقبلا.