أساس أزمة الاقتصاد الأمريكي التي هزَّت كل العالم كالزلزال، هو التساهل بالديون والاعتماد عليها في الاستهلاك والاستثمار بشكل يفوق القدرة ولا يعبأ بالمخاطر، فالطمع يعمي عيون الدائنين عن المخاطر حين يرتفع عائد الدين، والطمع هو الذي يجعل الأغنياء فقراء.. والمجتمع الأمريكي يستهلك أضعاف انتاجه الحقيقي، ويطبع بلايين الدولارات فيشتريها العالم كمخزن للقيمة، مع انها لو قدمت للمقايضة ببضائع لانكشف فوراً أنها كالشيك بلا رصيد.. ومنذ تخلت الولاياتالمتحدة عن تغطية الدولار بالذهب عام 1971م والذهب يرتفع سعره بينما الدولار ينخفض لأنهم يطبعون منه بلا حسيب ولا رقيب، ولكن الذهب لا يمكن خداعه، عام 71كان سعر الأونصة 31دولاراً (حين كان الدولار مغطى بالذهب) والآن يقارب سعرها التسعمائة دولار رغم أن موجودات الذهب تضاعفت عشرات المرات خلال تلك الفترة.. ومجتمعنا مع الأسف لايزال يحذو حذو المجتمع الأمريكي في التساهل بالديون (القروض الشخصية والاستثمارية ذات التوسعات الكبيرة) مع الإسراف في الاستهلاك وهذا خطر جداً. الدورة المتوحشة لقد أطلق الأمريكان على كارثة الرهن العقاري (الدورة المتوحشة أو الشريرة) لأنها تمر بدورة مأساوية تزيدها حدة وشراً بشكل مُضاعف، فبنوك الاستثمار تعرض وتبيع الأصول العقارية المرهونة لتحصل على ديونها، وهذا يؤدي إلى المزيد من انخفاض العقارات لكثرة العرض، وذلك بدوره يضاعف خطورة ضياع الديون، مما يجعل البنوك تزيد عروض البيع فتنخفض قيم الأصول العقارية بشدة لتحصل على نقود فورية، ويزداد نزول تلك العقارات وتزداد الديون الرديئة التي يجب شطبها، وهكذا تستمر الدورة الشريرة التي جعلت بنكين من أضخم بنوك الاستثمار يختفيان فجأة خلال يوم واحد، وهما بنك ليمان الاستثماري والذي عاش أكثر من مائة وخمسين عاماً ومَرّ (بالكساد الكبير) وبالحروب العالمية وبمختلف الأزمات ولم يتأثر ولكن الدورة الشريرة قضت عليه تماماً وجعلته أثراً بعد عين، إذ ابتلعه بنك آخر بأبخس الأثمان، وقد يغص به رغم أن ثمنه بخس.. والثاني هو المير لنش الذي (كان) أشهر من نار على علم في ادارة الأصول واستثمار الأموال وتقديم الاستشارات فقد قضت عليه (الدورة الشريرة) خلال يوم واحد بعد تراكم ديونه الضائعة، ولم تنفعه مشورته للعملاء في أن يشير على نفسه أولاً بحسن التصرف والقدرة على ادارة المخاطر.. وأسواق الأسهم في عالم اليوم كثيراً ما تمر بهذه الدورة الشريرة، وذلك حين يشتد الطمع ويقبل الناس على القروض والتسهيلات لشراء المزيد من الأسهم طمعاً في الربح، فيرتفع السوق فوق ما يجب ويبدأ العقلاء في البيع بكثافة فينكشف المدينون ويبيعون مجبرين فيتواصل النزول لينكشف آخرون.. إن هذا يدل على أن التساهل بالديون سائد في عالم اليوم، وهو أمر سيئ جداً نهى عنه الدين والعقل والحكمة، فالدَّين ذُلُّ في الليل غلُ في النهار.