ماذا يعني هذا "الصراخ السياسي" المتواصل عن "الاستراتيجية"، الذي يقوم به "زبيجنيو بريجنسكي"؟ وهو واحد من أبرز المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين، ومسؤولي مجلس الأمن القومي، في العقود القليلة الماضية. وماذا يعني أن يعلن قبل أسابيع: أن قيادة الولاياتالمتحدة "تتعرض اليوم للاختبار في الشرق الأوسط"، وان الحاجة ماسة في الوقت نفسه إلى "استراتيجية حكيمة للاشتباك السياسي البناء، بصورة أصيلة، في تلك المنطقة من العالم"؟ ما هو هذا الاشتباك السياسي البناء، وما هي تلك الصورة الأصيلة له؟ هناك حقيقة شائعة، تقول بأن القوة العسكرية العظمى للولايات المتحدة قادرة على هزيمة أي جيش نظامي في العالم. فانفاقها العسكري يفوق انفاق أكثر من مئتي دولة، المشكّلة لبقية العالم. إذ أن موازنتها العسكرية وحدها تتجاوز الناتج الإجمالي الداخلي لجميع بلدان العالم، باسثتناء الأربع عشرة دولة، التي تلي الولاياتالمتحدة في الترتيب العالمي. أي إن الحديث هنا هو عن "فائض" قوة إمبراطورية، تجرّ الجسد الإمبراطوري رغماً عنه، للخروج من جلده نحو ينابيع قوة هذا الجسد وموارده الحيوية. وهو ما يعني، أن القوة، في هذه اللحظة من تاريخ تضخمها واندفاعها، تحتاج إلى إدارة استراتيجية أكثر من حاجتها لإدارة سياسية. ومن دون التعثر في الجدل المحلي العربي، حول الفشل الأميركي في العراق، وما يُبنى عليه من تصورات حول المقاومة، فضلاً عن جدل الانتصارات والهزائم. ففشل العدو، أو حتى هزيمته، لا يعني انتصارك. والدليل أن الخصم باقء ولم ينته، ولديه آلية داخلية "مدنية" وسلمية، لمعالجة أسباب الفشل والتعثر والهزيمة، وحصرها، ومحاسبة المسؤولين عنها، لمنع تكرارها. وفي الحالة العراقية، وهي حالة كارثية في فرادتها، فمن الصعب التعرف على ملامح وجه المنتصر في العراق، إذا كان هناك نصر أو هزيمة. وحتى بتسمية الفشل الأميركي في العراق هزيمة، فليس هناك طرف منتصر. لا المقاومة، ولا الإرهاب، ولا الطوائف، ولا المجتمع العراقي، ولا الجغرافيا، ولا الدولة، ولا حتى شظاياها، المُصار إلى لملمتها الآن. فمن دون الدخول في كل هذا الجدل، يمكن القول إن هذه القوة الأميركية المرعبة أثبتت عجزها، مرة أخرى، عن السيطرة على الشعوب المتمردة، والشعوب العادية أيضاً، لبلدان فقيرة. ومن حقائق هذا العجز الجديد، لآلة القتل والفتك الأميركية، التي لم تعرفها البشرية من قبل. هو أن السيطرة على السكان، أيّ سكان، لا يمكن أن تتم إلا عن طريق بشر مثلهم، لأن التقنية وآلات القتل لا يمكن أن تكونا بديلاً للإنسان بالكامل. وهي إحدى مواطن القوة، للأنظمة الديكتاتورية، القادرة على تعبئة شعوبها كما تريد، ومن دون أن تخشى دفع ثمن مرتفع من حياة جنودها. وهو في الوقت ذاته الضعف الأساس، لأية قيادة سياسية، في الأنظمة الديمقراطية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية. في فيتنام، لم تستطع أميركا السيطرة على السكان، رغم أن نسبة الجنود الأميركان مقارنة مع السكان كانت أكبر مما هو موجود في العراق حالياً. ومن أخطاء البنتاغون الاستراتيجية، تصوره القدرة على الاستعاضة عن الموارد البشرية بالآلات العسكرية المتقدمة. ما جعل المشهد الأميركي في العراق أكثر خطورة. فبعد النصر العسكري الأميركي، الخاطف والسريع، على جيش الدولة العراقية المنهكة، لم تستطع الإدارة الأميركية كسب عواطف العراقيين، بما في ذلك العرب الشيعة. وأمعنت سياسة هذه الإدارة في التفريق بين مكونات الشعب العراقي الرئيسة (السنة والشيعة والأكراد). فسهلت بذلك، ان لم نقل شجعت، الإنزلاق نحو الحرب الأهلية. وهو ما أبرز مشهد عجزها العام عن ضبط البلاد العراقية. عجز عام يكرّس أكثر فأكثر فقدان الولاياتالمتحدة، وقوتها الفائضة، لسيطرتها على أجزاء أخرى من العالم. حالياً، انتقل قادة البنتاغون من تسمية مقاومي الاحتلال الأميركي العراقيين من "إرهابيين" إلى "متمردين". وهم "متمردون" ينتقلون في وسطهم الشعبي "مثل الأسماك في الماء"، بحسب تعبير الزعيم الصيني ماوتسي تونغ. فما الذي تبقى من وسائل، أمام جيش احتلال غير قادر على السيطرة على أكثر من رقاع صغيرة متفرقة من الأرض، هي أماكن تواجد قواته العسكرية بشكل طبيعي؟ لم يبق إلا إفراغ الحوض من مياهه: إما بإبادة السكان، كما حاول الجيش الروسي في الشيشان، أو بترحيلهم إلى معسكرات اعتقال، كما حاولت فرنسا في الجزائر، أو باستخدام الطريقتين معاً، كما حاولت أميركا في فيتنام، من دون أن تمضي في ذلك إلى النهاية. إذ لم يسمح لها الرأي العام الأميركي ذاته بذلك، في حينه. فهل ما يحدث الآن، في واشنطنوالولايات الأميركية الاخرى، هو بداية لوقف محاولة تفريغ الحوض العراقي من أسماكه ومياهه..؟ التقارير الأميركية تتدفق بشكل غير مسبوق، لكشف أقنعة الحقيقة، التي تم إخفاؤها عن الرأي العام الأميركي. وهي أن "المحافظين الجدد" أرادوا تحويل العراق إلى مختبر لمشروعاتهم وأفكارهم. وهو ما عجزوا عن إقناع أحد به في الولاياتالمتحدة قبل الحرب، إذ لم يكن لديهم أدنى فكرة مسبقة عما يجب أن يفعلوه في العراق بعد الحرب. الاشتباك السياسي البنّاء، الذي يدعو له بريجنسكي في الشرق الأوسط، يقضي بالاعتراف أولاً بأن للقوة مهما بلغت جبروتها حدوداً، واستبعاد فكرة "الفوضى"، بناءة أم هدّامة، كوسيلة سياسية. فالفوضى، بحسب ما انتجت معارف البشرية، لا يمكن أن تكون إلا هدّامة. أما الصورة الأصيلة لهذا الاشتباك السياسي، فتحتاج إلى الإقرار بأن "الضعف" له حدود أيضاً، ويمكن للفوضى أن تحوّله إلى قوة تدميرية كبرى. تماماً، كالذرة التي يجري تخصيبها، لتكون جاهزة لإفلات طاقتها العظيمة، ليجري تحويلها لاحقاً إما إلى انفجار مدمّر، أو إلى طاقة مفيدة.