رمضان جاءك يانفوس فأشرقي.. باليمن والإسعاد جئنا نلتقي مرحباً به.. شهر صبر، وعطاء، وتميز للمسلمين.. بإيمان ثابت، ويقين قاطع، نعلم أنه ما من أمر أمرنا به الله تعالى، أو تكليف كلفنا به إلا ووراءه الخير الكثير لنا.. أقول لنا.. لأن الله غني عنا، ولن تنفعه عباداتنا، ولن تضره معاصينا - لكن لأنه (كتب على نفسه الرحمة) فتح لنا أبواب الخير.. أبواب النجاة.. أبواب الجنة.. فكانت التكاليف والأوامر بالعبادات والأعمال الصالحات.. ومنها الصيام، إذ جعل الله الصيام الركن الرابع من أركان الإسلام.. بعد الصلاة والزكاة.. وقبل حج البيت الحرام لما له من فلسفة هي في غاية الأهمية بالنسبة لنا نحن المسلمين. لن أتحدث عن عبادة الصيام، وفرضيته، وواجباته.. فقد أفاض فقهاؤنا السابقون واللاحقون - جزاهم الله خيراً - في ذلك كله.. وما أعرف كتاباً أو حديثا عن الصوم إلا وفيه هذه الشروط، والفوائد، والآداب. لكنني أتأمل.. لماذا الصوم فرض في رمضان، وتطوع في غير رمضان.. فوجدت أن هناك من الخير الكثير في ذلك. الصيام مصدر من قول القائل (صمت عن كذا وكذا) أي: كففت عنه، أصوم عنه صوماً وصياماً. ومعنى الصيام: الكف عما أمر الله بالكف عنه، ومن ذلك قيل (صامت الخيل) أي كفت عن السير. قال الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج، وأخرى تعلك اللجما قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوماً) أي: صمتاً عن الكلام. فلسفة الصوم.. وحكمته البالغة بهما صار ركناً من أركان الإسلام وهي كثيرة لعل منها: أن الإنسان تحكمه عاداته، ويصل به الأمر إلى أن تتحكم فيه هذه العادات. لقد كتب الكثيرون عن فائدة الصوم من الناحية الطبية.. ومن ذلك كان الناس إلى زمن قريب يحسبون أن الصيام من الأمور الخاصة بالأديان، ولكن لم يكد ينتشر الطب بين الناس حتى علموا أن الصيام قد اعتبر في كثير من الأمراض من مقومات الصحة الجسمانية، كما علموا من عهد (أبقراط) أنه عامل قوي من العوامل المنقية للجسم من سموم الأغذية، فإن المواد الحيوانية التي يتناولها بعضنا بشراهة تحتوي على مواد دهنية لا تطيق البنية البشرية أن تختزن مقداراً يزيد عن الحاجة منها، وإطلاق الحرية للإنسان يجعله يتناول كل ما يقع تحت يده، وكثيراً ما يصاب بسبب هذه الحرية بآفات مرضية، تكون وبالاً عليه، والصوم ذو تأثير بالغ في تخفيف الأعراض التي تنتاب الأعضاء الظاهرة والباطنة، وتحويل محمود في حالة المريض يتأدى منه إلى التخلص مما أصابه من الآلام. وأنا لست طبيباً أحدث الناس في تخصصي، ولكني تعلمت من التجربة أنه بالالتزام المقنن للطعام والشراب يحمي الإنسان نفسه من كثير من الأمراض، مع أني ألاحظ في زمننا المعاصر أن اغتنام فرصة الصوم لتحقيق الصحة الجسدية لم يأخذ بها كثير من الناس. بل إن الكثير يتناول بشراهة في رمضان طعاماً أكثر من تناوله إياه في غير رمضان، وهذا يتنافى مع حكمة الصيام. وحصة الروح من هذا التحول لا تقل عن حصة الجسم، وفي كثير من الحالات فإن الطب النفسي قد استفاد من ناحية الصوم ما لم يستفده من العلاج بالعقاقير. وهناك فلسفة أخرى يمارسها كثير من الناس اليوم.. وهي ما يعرف بالحمية.. وتنتشر البرامج الكثيرة لتحقيقها، وهناك معاهد ومراكز لتنفيذ ذلك.. وما أكثر روادها من النساء، خاصة من راغبي التخلص من البدانة والسمنة، وعمل تخسيس في الوزن.. ولو تدبرنا ذلك الذي يكلفهم الآلاف، وتستنزفه هذه المراكز العلاجية لوجدنا أن تنفيذاً مقنناً للصوم أجدى بكثير من هذه البرامج، ولو أن مرضى السكر مثلاً التزموا بالمعنى الحقيقي للصيام لتحسنت أحوالهم الصحية في رمضان مع الصيام، ولو تطوعوا لمدد قليلة في غير رمضان فإنهم بذلك يجمعون بين الحسنيين العبادة، والصحة. وهنا أمر يحتاج إلى تدبر، لقد لاحظ الكثيرون من ذوي التدبر أن البلاد الإسلامية أقل في مستواها الصحي من بعض الأمم الأخرى، وما ذلك إلا لأننا لا ننفذ الصوم كما يجب قبله وبعده، فحين نصوم رمضان نهاراً.. تأتي موائد الإفطار مكتظة بأنواع الطعام، وأكثرها مما يزيد في عدده ووزنه عن الوجبات في الأيام العادية، وكأننا كنا في حبس وحرمان، فنعوض ما حرمنا منه في نهار الصوم، ولهذا فلا فائدة من هذا الصوم نهاراً إذا تلقى الجسم أضعاف ما كان يتلقاه قبل الصيام ليلاً. ومن فلسفة الصوم أنه يعلم الجود، ويبسط الأيدي بالصدقات.. وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما معناه: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير.. على أن الصدقة في الجو الإيماني - كرمضان - تفيد المتصدق أكثر مما تفيد الآخذ، ذلك لأن فائدتها للآخذ تكاد تكون فائدة مادية وحسب - إذ تكون بالنسبة له علاجاً للجوع، أما بالنسبة للمعطي فإنها تفيده في الدنيا، وتفيده في الآخرة، أما فائدتها في الدنيا فإن الله سبحانه لا يختلف عليه بالمثل فقط بل بأضعاف مضاعفة.. فقد قال تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)، والحسنة بعشر أمثالها، وقوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة - والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم). ولقد عرف أسلافنا فضائل الخير والصدقات فقال عمر بن عبدالعزيز واصفاً فضل العبادات في التقرب إلى الله: "الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه". عرفوا ذلك فتنافسوا في البذل والإنفاق وهم متسابقون في الصلاة والصيام ومن فلسفة الصيام أيضاً أنه رادع لكثير من الناس عن عمل السوء أو الجهر به، فكثير ممن يجرفهم الشر في الحياة العادية لا يفعلون الشر في رمضان، حتى وإن كانوا ممن لا يتمسكون بالدين تمسكاً قوياً. إنه الصيام.. صوم عن كل الخطايا.. صوم عن كل مالا تقبله النفس السوية من الآثام.. صوم عن كل مخالفة لشرع الله تعالى. ومما نلاحظه عن الصوم أنه كان ضمن العبادات في سائر الأديان لما فيه من طاعة وإذعان للخالق، وما يترتب عليه من ثواب، ولكن اختلفت طرقهم في الصيام.. ففي المسيحية وحتى اليوم ما يسمى (صيام الأربعين) أي أنهم يصومون عن بعض الأشياء أربعين يوماً متوالية، وعرفنا أن من أفضل الصيام صيام سيدنا داود، حيث كان يصوم يوماً ويفطر يوماً كما جاء ذلك في توجيهات رسول الله - صلى الله عليه وسلم، كثيرة مواقع الصيام في عبادة البشرية منذ نشأتها - وما خلت ديانة منه أبداً.. لكن بالموازنة بين كل ما سلف وصيام المسلمين في شهر رمضان وما يتبعه من زكاة وعيد للفطر، وما يكون من كبير الأجر للصائم والمعتمر فيه لا يوازيه صوم آخر. فالحمد لله أن أكرمنا بهذا الصيام العظيم ثواباً، وفائدة، وعملاً وتوقيتاً، كما هو تفضله العظيم علينا في كل شيء في حياتنا. وأخيراً.. فليعذرني شباب اليوم في أن أترحم على الأيام الخوالي حين كنا نؤدي حق شهر رمضان كما هو واجب أداؤه، نزاول أعمالنا وتعليمنا مثل بقية الأيام - دون تقليل لوقت العمل والدراسة، أو تغيير في مواعيده كما هو اليوم - وكنا نحيي لياليه بالصلاة والتهجد وقراءة القرآن - لا باللهو والسهر والأسواق.. ليتنا نعود إلى هذا الماضي.. ونعمل في رمضان كما أراد الله لنا حين افترضه علينا. هنيئاً للمسلمين بحلول شهر الصوم، والذي أدعو الله تعالى أن يكون موسم جد وعمل ومثابرة.. لا شهر كسل، وخمول، وتفريط. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.