بعد تردد كبير، وتوقعات متضاربة، استقال الرئيس الباكستاني برويز مشرف، وجاءت استقالته مفاجئة بعض الشيء، فرغم كونها -أي الاستقالة- مطروحة منذ نوفمبر الماضي إلا أن الرئيس مشرف (المعروف بعناده) على خلاف ما توقعه الكثيرون اختار الاستقالة طواعية بدل اللجوء إلى المحكمة العليا التي عينها وحل البرلمان، أو تزوير استفتاء شعبي وإعلان حالة الطوارئ. ورغم هذا الخروج المذل له في نظر خصومه، بعد أن حيي يوما كمخلص للأمة الباكستانية من شر الطبقة السياسية الفاسدة، إلا أنه قد أحسن صنعا بهذا الخيار، وقد جنب بلاده مصير الفوضى - على الأقل من جانبه الشخصي-. هل خروج مشرف يغير من الأمر شيئاً؟ برأيي، فإن استقالة مشرف لن تؤثر كثيرا في التحديات التي تواجهها باكستان في الوقت الراهن، فعلى الرغم من خروج العسكر من السلطة -بشكل ظاهري- وعودة الحراك البرلماني إلى المشهد السياسي، إلا أن مشكلة باكستان لم تكن مشرف كما أراد خصومه تصوير ذلك، بل يمكن القول إن سجل مشرف كرئيس يضاهي أو يتفوق على نظيريه الأخيرين في الحكم (نواز شريف وبناظير بوتو) اللذين مُلئ حكمهما بأضعاف تهم الفساد التي لاحقت مشرف، يضاف إلى ذلك أن التحدي الذي فرضته الحرب على الإرهاب في باكستانوأفغانستان بعد 11سبتمبر يتفوق على التحديات التي واجهتها باكستان خلال مرحلة التسعينيات بما في ذلك النزاع مع الجارة الهند. ولمشرف مزايا عديدة، وهو صعد بشكل مميز إلى مركز القيادة في الجيش، وكان له دور بارز في تنشيط الاقتصاد الباكستاني بين عامي 2000- 2004، وإعادة توثيق العلاقات بالغرب لاسيما الولاياتالمتحدة بعد فترة شريف التي طبعت بالجفاء، وفوق ذلك كله، استطاع مشرف مواجهة الإرهاب داخلياً بصلابة، ورغم دخول بعض الأحزاب الإسلامية في ائتلاف الحكم، إلا أنه أبقى بشكل واضح مسافة بينه وبين الأصوات المتطرفة داخل باكستان، وتحت قيادته قدم الجيش الباكستاني تضحيات كبيرة في مواجهة التهديدات الإرهابية والانفصالية في مناطق القبائل وعلى طول الحدود مع الجارة أفغانستان، وإذا كان الصراع مع الهند هو واحداً من أهم بؤر التوتر في العالم، فإنه يحسب لمشرف مواقفه الإيجابية تجاه التقارب مع الهند رغم ما شاب تلك الجهود من التعطيل، وهي جهود تتجاوز النظرة الضيقة للطبقة السياسية في باكستان تجاه جارتهم. لست هنا لأدافع عن مشرف، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الطبقة السياسية في باكستان تظلم مشرف حينما تريد تحميله كل المشكلات التي تعانيها الدولة اليوم. صحيح، أنه كانت للرجل أخطاء كثيرة، وأنه حصل تراجع على صعيد الحريات السياسية في عهده، إلا أنه في ذات الوقت لم يكن متعمداً لسياسة موجهة ضد خصومه من الطبقة السياسية، ولأكثر من عامين وهو يحاول التوافق مع كبرى المجموعات الحزبية والسياسية دون جدوى . وإذا كان الاقتصاد الباكستاني قد تعرض لنكسة خلال العام الماضي فمرد ذلك إلى سببين رئيسيين وهما : تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية في عموم باكستان، لاسيما شمال غربي البلاد، حيث كانت تعتبر مناطق مثل وادي سوات مصادر دخل وطني نظرا لشهرتها السياحية. ويعود السبب الآخر لتنامي حركة شبابية حقوقية معارضة للعسكر، استطاعت توتير الشارع السياسي، وقد ركب الموجةَ حزبا الشعب والرابطة الإسلامية وهما أبعد من أن يكونا مؤهلين لحمل تلك الشعارات. طبعا، ارتفاع أسعار الطاقة العالمية، وتدني مستوى التنافسية الاقتصادية داخل باكستان، ووصول التضخم إلى 25بالمائة، كل تلك مؤشرات مهمة ولكنها نتائج مباشرة لعدم الاستقرار الذي عانته باكستان. وإذا كانت الحركة الحقوقية السبب الرئيس لخروج مشرف، فإنها وكعادة مثيلاتها من الحركات المثالية الشعبية (غير المسيّسة) لم تخلق بديلا، ولم توفر حتى شروطاً جديدة ينبغي على الطبقة السياسية في باكستان مراعاتها، ونتيجة لذلك عاد حزبا الشعب والرابطة من جديد ليحتلا المشهد بعد خروج العسكر. وإذا كنتَ من المتابعين الجدد للسياسة الباكستانية، فسيهولك حجم التكرار الذي تتسم به الأزمات السياسية في باكستان إلى حد التناص أحيانا. إذ كما حدث في مناسبات عديدة منذ أيام ضياء الحق، يتحالف الحزبان الرئيسيان ضد العسكر لبرهة من الوقت لا تتجاوز أشهراً، ثم ينقلبان على بعضهما تخويناً وتجريماً، وينتهي الأمر باستقواء أحد الفريقين بالعسكر والآخر بالمؤسسة القضائية. حالياً، يحدث أمر مشابه، فبعد استقالة الرئيس يكون أمام الحكومة شهر لكي تعد لانتخابات جديدة، وقد يكون مشرف -عن نية أو بغير نية- قد ورط خصومه الذين أطاحوا به، إذ دب الشقاق والانقسام ما بين حزب الشعب الباكستاني بقيادة آصف زرداري، وحزب الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف. ففي منتصف هذا الأسبوع أعلن شريف انسحاب حزبه من التحالف الحكومي، وهو ما يهدد بانهيار الحكومة الراهنة، وكرر مطالبه بإعادة تثبيت القضاة والوزراء الذين فصلهم مشرف، وإلغاء التعديلات الدستورية التي أجراها . فيما يسعى زرداري لترشيح نفسه للمنصب الشاغر، ويحاول بمشقة ظاهرة إنشاء تحالف جديد يجمع فيه بقية خصوم وحلفاء الرئيس المستقيل، وفي وقت أرسل حزبه إشارات استرضاء واضحة للجيش، فإن منافسه حزب الرابطة يبالغ في رفع شعار مساندة المؤسسة القضائية، وإعادة الشرعية الدستورية للبلاد. خلال شهر من الآن يفترض أن يتم تعديل الدستور بأغلبية الثلثين وهو تحد كبير تنقسم آراء المراقبين حوله، وأن يعاد القضاة لمواقعهم -وهذا يعني تجريد بعض القضاة الحاليين ممن تعاونوا مع حزب الشعب من مناصبهم- (تضارب مصالح بالطبع)، وأن تجري الانتخابات في موعدها دون تعطيل. أحلام أم تمنيات! رغم كل هذه الصعوبات، لدي اعتقاد بأن حزب الرابطة قد يسمح بشكل عملي -مع احتفاظه بمعارضته العلنية- لتمرير ترشيح زرداري لأسباب عديدة أبرزها أن وصول حزب الشعب أولاً للسلطة بحكومة (انتقالية) ذات ائتلاف ضعيف وهش سيجعلها مهزوزة وضعيفة، وسيكون بالإمكان إسقاطها بالتعاون مع المؤسسة القضائية عبر إعادة فتح ملفات الفساد بوجه قادة الحزب. ثانياً، أن حزب الرابطة يعي ضرورة تعديل الدستور لتقليص حجم السلطات التنفيذية العظيمة التي أضافها مشرف لنفسه والتي قد تستخدم ضدهم مستقبلا، ولذلك فإن ثمن صعود منافسيهم سيكون التعديل الدستوري، وبذلك سيجيّر هذا النجاح التشريعي لصالح "الرابطة" كشرط لتخليهم عن السلطة. وأخيراً، فإن قادة حزب الرابطة يدركون حجم معارضة العسكر لهم، لاسيما أن مفاوضات العامين الماضيين كشفت عن ميول العسكر الواضحة لصالح التحالف مع حزب الشعب، ولهذا فإنهم يخشون من انقلاب عسكري ضدهم فيما لو استلموا الحكم اليوم عند أول أزمة سياسية أو اقتصادية يواجهونها في الأشهر القادمة. كما نرى، أزمة باكستان لا يمكن اختصارها في مشرف كما يرغب خصومه، بل يشترك في صنعها واستمرارها الطبقة السياسية في باكستان، والتي للأسف لم تراجع نفسها خلال العقد الماضي الذي عاشته خارج السلطة. وكل ما يأمله المرء، أن لا يستمع رموز السياسة الباكستانية للأصوات التي تريد الانتقام من مشرف، لأن العهد الذي يبدأ بانتقام الساسة من بعضهم هو عهد انتقام وليس عهد تصحيح. وتذكروا، أن مشرف ليس وحده الملوم.