للكتابة ضمير يشهد بنبل الغاية أو فداحة الإثم.. يموت الكاتب وتبقى الشهادة. من الكتاب أصدقاء، أستمع إليهم حين نلتقي فيتحدثون بقناعات أقرأ لهم النقيض حين يكتبون، يدهشني الأمر حين أود أن أعرف من يكونون، هل يحاسبون بكلامهم أم بحروفهم لعجزي عن الوصول إلى الدافع لتغيير المواقف والرؤى والقناعات لا سيما وأن شيئا لا يخيفهم أو يردهم أو يلقي بهم في مواقع الشك أو الحيرة .. في أحوال كثيرة أشعر بحيرة الكاتب قبل الشروع في الكتابة، "عن أي شيء أكتب؟ علي أن أختار قضية عامة، مسألة تهم معظم القراء، لتكن قضية اجتماعية مثيرة، حادثة غريبة، القراء لديهم شغف غريب بأخبار الحوادث، لكن المشكلة أن كتابا كثيرين كتبوا عن الحادثة الأخيرة فضاعت الفرصة، إذن فلأكتب عن اكتشافات علمية مثيرة، هذه مسألة تحتاج إلى وقت والى كثير من البحث وقد يضيع الوقت بلا طائل، أظن من الأفضل أن أتناول مشكلة قائمة، التعليم مثلا، لقد قالوا عنه كل شيء ولم يعد ما يقال إلا المكرور، ليكن الإعلام العربي ومشاكله، لسنوات يكتب الكتاب عنه حتى أصبحت الكلمات صورا كربونية من واحد إلى آخر، الزواج والمهور والحفلات المبالغ فيها، هنا أحتاج إلى واقعة طريفة تبرر الكلام من جديد في الموضوع.. علي أن أحدد أولا ماذا أريد بالضبط، أريد أن أصل إلى العدد الأكبر من القراء، هذه واحدة، وأريد ثانيا أن أحسن من صورتي أمام القارئ فأبدو كاتبا ملتزما، نعم كاتبا ملتزما أمام قرائي الأعزاء، هذا يحدني داخل دائرة القضايا الاجتماعية، فليكن وعلي أن أرفع من نبرة الغيرة على من أنصحهم، ومثالية في النظرة والتناول وطرح الحلول". أكاد أتصور الكاتب قبل الكتابة وأعيش معه معاناته في البحث عن موضوع حين تصدمني "الصناعة" أو الاصطناع في الظهور بمسوح "كاتب ملتزم" وأكاد أصرخ لو كان صوتي يصله "ليس هذا معنى الالتزام"، فالالتزام أول شروطه أن تكون هناك قضية تبحث عن الكاتب، لا أن يكون هناك كاتب يبحث عن قضية، وبقية شروطه لا مكان لها هنا. أقرأ أحيانا لأحد الكتاب موضوعا تاريخيا أو علميا، تقع عيني على خطأ تاريخي أو معلومة علمية غير صحيحة فأجن : أي ضمير سمح له بهذا التجاوز؟ فالتوثق من التاريخ ليس أيسر منه، والتأكد من معلومة علمية لا يحتاج إلا إلى أبسط الجهود، إذا بقيت المعلومة الخاطئة داخل دماغ الكاتب أضير بها فرد واحد، وإن خرجت فوق الورق امتد الضرر إلى الجميع. لدي أمثلة كثيرة، لكن هذه ليست مهمتنا، ولحسن الحظ أن النماذج التي أشرت إليها حالات فردية قليلة، ربما لفت نظري إليها كتابات شخوص زاروا بلادنا وأكرمته فأسمعونا فيها قصائد الغزل وكتبوا مطولات الهجاء، حالات فردية قليلة ورغم قلتها فهي كافية لأن ترسخ في يقيني فكرة أن الكتابة التي لها ضمير حي وعادل هي تلك التي لم تكتب بعد.