لا تعتقدوا أن متناقضات العالم العربي وغرائبه بل بذاءات معوقاته تنحصر في لبنان حين تتضاد أقدمية الثقافة والإعلام والفنون مع واقع التصادمات الفئوية والطائفية التي تتعفف عن همجية دمويتها وانتهاكاتها قبلية العصر الجاهلي.. بل في العصر الجاهلي كان الرجل المسموع الكلمة والذي يقود جموع قبيلته هو الرجل الكريم الشجاع المتسامح المتفق على احترام أخلاقياته وتعاملاته، أما ما هو الأغرب والأكثر بذاءة فهو نوعية بعض من يصلون إلى الحكم في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن.. إنهم.. غزاة معتدون ليس ضد عدو أمتهم ولكن ضد أمن وأخلاقيات أمتهم من يندرج تحت مسمى "القيادي الثوري" يصبح كمن أعطي تفويضاً إلهياً بتقويض كل الأخلاقيات وانتهاك كل الحقوق سواء عبّر عن ذلك من خلال قيادة جزء من حزب مثلما حدث في العراق أو حين يأتي وكأنه موفد من السماوات العليا كي يصلح البشر، ونموذجه متوفر في أكثر من مكان عربي.. قرأت منذ بضع سنوات كتاب "كنت طبيباً لصدام" للدكتور علاء بشير، وأعجبني فيه موضوعيته وأنها لم تؤثر فيه هجمات الإعلام على صدام، لكنه قدم عنه ما لم يكن شتيمة مباشرة قائمة على رصف الألفاظ، وإنما استعرض سرد تصرفات وسلوكيات تجعلك تحمد الله أنك لم تكن ضمن قطعان "رعيته"، فالتدني الأخلاقي يصل إلى حدود أن يطلق ابن الأخت الرصاص على خاله في حفل أنثوي تتسابق فيه محترفات الرقص والعواطف على كسب ذوي المكانات الرفيعة في العراق.. الأستاذ إبراهيم الزبيدي من العراق.. مثقف معروف للغاية.. قرأت له كتابه "دولة الإذاعة" وفيه يروي ما يصح أن يسمى بخرافات أطفال من غير المعقول أن تحدث في بلاد الرصافي والجواهري ومنير بشير ومئات بل آلاف غيرهم من نجوم الفن والثقافة والتأليف العربي، ثم يتسلط عليهم مجموعة ممن هم أقرب إلى المرض النفسي من السلامة.. مجموعة لا تكتفي باختطاف البلد لكنها تعطي محسوبيها أعلى الشهادات الأكاديمية، مع أن أفضل واحد منهم لم يتخرج في أي جامعة مثل صدام حسين الذي حصل على لقب المهيب الركن وهو ترميز علوي يفوق أي مرتبة عسكرية.. تقرأ الكتاب فتتابع الصراع القروي البشع بين أبناء تكريت والعوجا ثم الاندماج في تكريت كموقع أفضل، وتلمس أن صدام حسين كان يجب أن يوضع في السجن منذ سن التاسعة وأن يُدان بأكثر من جريمة قتل قبل أن يصل إلى مستوى وظيفي، وأن هذا هو السبب المغري لحزب البعث العراقي عندما احتواه.. وكيف أن عزت الدوري بدأ حياته بائع ثلج.. وأن لقب الأب القائد للبكر كان تغليفاً بنصاعة الطاعة والولاء من قبل صدام لكي يقضي على أقرب المقربين إليه الذين أوصلوه إلى موقع نائب الرئيس.. أما الزعيم الأوحد.. وبروز الإذاعة كميدان تصفيات.. وكيف تنزلق الدماء على المدخل لأكثر الزعماء الآفلين.. ولماذا تسرق جثة الزعيم رسمياً وتثقل بالحديد كي ينهي سمك النهر وجودها نهائياً.. فهي فظاعات مرعبة لم توجد في العراق فقط ولكنها نموذجية، هو الشعور بالعظمة وممارسة الفتك في حالات جنون البحث عن السلطة عربياً..