تحدث إليَّ أكثر من صديق وزميل وكذلك بعض القراء حول ما كتبته في الحلقات الماضية الثلاث عن فصل (الثوابت نوابت) في كتاب الدكتور فالح العجمي: (تحت القشرة: دراسات في الثقافة والموروث 2008)، ثم اطلعت في النسخة الإلكترونية من ثقافة الخميس، على تعليق قصير كتبه قارئ باسم ناصر حماد الجهني يعقب فيه على الحلقة الأخيرة يوم الخميس 1429/5/24ه وكان قد كتب أيضاً عن حلقة سابقة شاكراً إياه على المتابعة. ورغم أنني غيرمتيقن من معرفتي لهذا القارئ شخصياً، فالأسماء تتشابه، إلا أنني أعرف شخصاً بهذا الاسم تحديداً، نشأنا جيراناً في جدة، في حارة كيلو ثلاثة - طريق مكة، وتقاسمنا سوياً مع أقراننا لحظات المرح الأولى وأحلام سنوات العمر المبكرة ثم باعدت بيننا ظروف الدراسة والترحال، واختلاف الاهتمامات والطريق الذي سلكه كل واحد منا، فقد يكون هذا هو صاحبي لأنه ينسبني إلى قبيلة (بلي) وهذا أمر لا يعرفه غير الذين يعرفون الأسرة عن قرب، ومع ذلك فقد يكون (ناصراً) آخر، وأياً كان فالمهم هو أن يتقبل ملاحظاتي بروح الحوار الودي.. كتب الأخ ناصر تعليقه تحت عنوان (بين هذيان العجمي وعرض البلوي) وواضح منذ البداية رفضه التام للكتاب ولما يحتويه، والطرح الذي يتجه إليه.. ولا أظنه قرأ الكتاب بعد، ولكنه يصفه بأنه "هذيان" ويصف المؤلف بأنه (كاتب ضل الطريق).. وهذا موقف سلبي من الكتاب ومعادٍ لصاحبه لا يترك مجالاً للنقاش وحوار الرأي المخالف، ومشكلة بعضنا أنه يفترض سوء النية دون تثبت، في كل من يفصح عن قناعة مخالفة لقناعاته، ثم يتسرع في الحكم على كل ما لا يوافق عليه.. لقد حرصت على أن أكون دقيقاً في حديثي عن الكتاب، واعتمدت في أحيان كثيرة على عبارات الباحث، ولكني بسبب الاختصار تركت الكثير من الأمثلة والاقتباسات المهمة التي أوردها الباحث لتعزيز هذا الرأي أو ذاك أو لترجيح وجهة نظر معينة على أخرى ولكن ما كتبته لا يكفي لإعطاء فكرة مكتملة عن الكتاب، فقد كان على القارئ الكريم أن يعود بنفسه للعمل ويقرأه بتأن بعيداً عن أي تصورات مسبقة عني أو عن المؤلف. يقول الأخ الجهني في فقرة من تعليقه: (ما يطرحه أهل الحداثة والعلمنة والقومجية، وعواجيز اليسار العربي المتهالك من فكر وطروحات للمساس بالإسلام ونظمه وثوابته مرحلة انتهت)، هكذا وبكل بساطة وجسارة وثقة فكل من يبدي رأياً يخالف آراءنا هو حداثي علماني يساري يهدف للمساس بالدين وثوابته. إن مثل هذا الرأي ومثل هذه الأحكام المجانية والمسبقة هي التي يحذر منها مثل هذا الكتاب، ويحاول التذكير بخطورتها، وهي التي تجعلنا نشعر أننا بحاجة لأعمال كثيرة مماثلة في الوقت الذي يرى فيه الأخ الجهني ان مثل هذه المؤلفات: (مرحلة انتهت) لأن الأمة في رأيه (تعرف ثوابتها)، وهي دعوة مباشرة منه لإبقاء الحال على ما هي عليه وتعطيل أبسط وظائف العقل البشري. إن الكتاب لا يتعرض لأركان العقيدة ولا للأساسيات في الإسلام بالتشكيك وإنما يتساءل عن ممارسات ومعتقدات ليس هناك دليل من القرآن والسنة على وجوب العمل بها، أو يمنع الاجتهاد في تأويلها لتلائم ظروفنا وما يستجد من أحوالنا، ولكنها أصبحت من "الثوابت" ووسيلة قامعة وسلاحاً في يد بعض الفئات المتنفذة لتمرير قناعات معينة وتحقيق مصالح شخصية، ولو طرح الأخ ناصر عن فكره وتصوره، قناعاته المسبقة وقرأ الكتاب لخرج بانطباع مغاير للذي كتبه في تعليقه. بقي أن أقول كلمة أخيرة عن هذا الكتاب وبالأخص عن فصل (الثوابت نوابت) تحديداً حين نشرت ثلاث حلقات عنه أقول إنه عمل مهم جداً في متناول القراء داخل المملكة، ذلك أن هذه القضية تعرض ربما لأول مرة في مؤلف سعودي وبهذه الجرأة والتمكن المعرفي، والطرح الذي يتميز بالشمولية والاستقصاء، والوقوف المتعمق والدقيق عند أبعاد قضية شائكة وبالغة الحساسية، وليس من السهولة بمكان مناقشتها والتصدي لها بهذا الأسلوب الرصين الذي يضيء القضية، ويحيل النظر فيها من جوانبها المختلفة، ويتابع تطور مصطلحاتها تاريخيا، وتعالقاتها على مر الأجيال معتمداً على أدلة وشواهد غزيرة، وعلى آراء واقتباسات باحثين معروفين لوثوقيتهم وإسهامهم الجاد، مما يضيف الى اكتمال مصداقية هذا العمل واعتباره مرجعاً مهماً وأساسياً في طرح قضية مصطلح "الثوابت". إن مناقشة قضية كهذه تذكرنا بمصطلحات مشابهة مثل (سد الذرائع)، (خصوصيتنا)، (عاداتنا وتقاليدنا)، (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع) وهي منظومة يمكن أن تنضوي تحت مصطلح "الثوابت" أو لعلها تنويع عليه، ما تزال تقوم بالدور نفسه في حياتنا، ولعل مناقشتها والتساؤل حولها، كما حدث في مؤلف الدكتور العجمي، وما يسهم به بعض الكتّاب السعوديين هذه السنوات الأخيرة يفتح أعيننا جميعاً على واقع مختلف عما يتصوره البعض منا، ويعيننا على النظر للكثير من الأمور التي نختلف حولها نظرة جديدة تسمح بالحوار مع الجميع واحترام الرأي الآخر.