القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    إجراء قرعة بطولات الفئات السنية للدرجة الثانية    «خليجي 26»: رأسية أيمن حسين تمنح العراق النقاط ال 3 أمام اليمن    الأخضر يتعثر أمام البحرين    المنتخب العراقي يتغلّب على اليمن في كأس الخليج 26    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية "أرويا"    رحلة تفاعلية    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    الشرع : بناء سوريا سيكون بعيدا عن الطائفية والثأر    للمرة الثانية أوكرانيا تستهدف مستودع وقود روسيا    القمر يطل على سكان الكرة الأرضية بظاهرة "التربيع الأخير"    صلاح يعيد ليفربول للانتصارات بالدوري الإنجليزي    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    وزير الداخلية يبحث تعزيز التعاون الأمني ومكافحة تهريب المخدرات مع نظيره الكويتي    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    شرطة العاصمة المقدسة تقبض على 8 وافدين لمخالفتهم نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    39955 طالبًا وطالبة يؤدون اختبار مسابقة "بيبراس موهبة 2024"    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    مقتل 17 فلسطينياً.. كارثة في مستشفى «كمال عدوان»    اتفاقية لتوفير بيئة آمنة للاستثمار الرياضي    السعودية تستضيف غداً الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    السعودية واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    ولادة المها العربي الخامس عشر بمحمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    نجاح عملية جراحية دقيقة لطفل يعاني من ورم عظمي    شركة آل عثمان للمحاماة تحصد 10 جوائز عالمية في عام 2024    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "الوعلان للتجارة" تفتتح في الرياض مركز "رينو" المتكامل لخدمات الصيانة العصرية    فتيات الشباب يتربعن على قمة التايكوندو    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    لمحات من حروب الإسلام    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عُقم التعلُّم كرءهاً
نشر في الرياض يوم 01 - 06 - 2008

لا بديل لتعليم جيد لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، فأي مجتمع لم يهيئ نفسه للإبداع والإنتاج بكفاءة وغزارة وإتقان وفاعلية قصوى لم يَعُدء له أية فرصة للبقاء بكرامة وسط التنافس العالمي المحتدم. إنه تنافس مفتوحٌ على كل الاتجاهات وقائم على العلوم والمهارات وليس أمام المجتمعات أي سبيل لدخول معترك هذا التنافس المفتوح والمضطرم إلا بالنجاح في معركة التعليم ولكن التعليم النظامي في العالم العربي يكاد أن يكون عقيماً وعاجزاً كل العجز عن تحقيق النقلة الحضارية المنتظرة فرغم المدة الطويلة بل الممعنة في الطول التي يستغرقها من حياة الدارسين فإن نتائجه لا تتناسب أبداً مع هذا الزمن الطويل الذي يستغرقه ولا مع ما ينبغي أن يتحقق منه، بل إن التجربة التعليمية الطويلة خلال قرن كامل تؤكد أنه أحياناً يأتي بنتائج معاكسة للتنمية ورافضة للانفتاح الفكري الذي هو الشرط المبدئي لفاعلية التعليم...
إن هذه النتيجة الفاجعة تستوجب إجراء مراجعة عميقة وشاملة لمعرفة أسباب هذا العقم وإدخال تعديلات جوهرية على فلسفته ومحتواه وأسلوب تقديمه تنقلنا إلى مستوى المجتمع المبتكر والمنتج والقادرعلى طلب المعرفة بشوق واستخدامها بكفاءة واكتساب المهارات بإتقان لأن الضائع حالياً من ثروة الوطن وذخيرة الأمة وطاقة الأجيال هو خسارة فادحة، فالثروة البشرية هي الثروة الأساسية المتجددة وعليها يتوقف الحاضر والمستقبل..
إننا في العالم العربي بعد تجربة قرن كامل مع تعميم التعليم يجب أن نعترف بأن هذا العُقم هو نتيجة طبيعية لأسلوب وفلسفة التعليم السائد لأنه يهتم ببرمجة العقول على ادعاء الكمال وتأكيد عدم الاحتياج لعلوم الآخرين، وهذا يؤدي حتماً إلى التعصب والانغلاق ورفءض الجديد، كما أن التعليم في العالم العربي يتعامل مع العلم كمسائل متناثرة وليس كنسيج مترابط ويقدّم كحقائق مطلقة وليس كظنون واحتمالات قابلة للمراجعة والتعديل والتطوير ولا يصل العلم إلى الدارسين كتفاعل بينهم وبين المعلمين وإنما هما طرفان متمايزان تقوم بينهما فواصل غير قابلة للاجتياز فالأول يُلقي والثاني يتلقى ولا مجال للحوار ولا للنقاش ولا للاعتراض ولا للتساؤل ولا للتغذية الراجعة يضاف إلى ذلك أن التلاميذ يأتون إلى التعليم كارهين له وغير مدركين لأهميته، فهو محرومٌ من أسباب الحيوية وبسبب ذلك يغيب الدافع الذاتي التلقائي الذي هو الشرط المبدئي للتعلُّم..
إن ملايين الدارسين في المجتمعات العربية يعايشون الدراسة كُرءهاً فتأتي نتائجها ضئيلة لأنهم لا يتجهون إليها بدافع ذاتي تلقائي وإنما أُتي بهم إليها إكراهاً وتُعُومل معهم كمتلقين سلبيين لا رأي لهم بل عليهم فقط أن يحفظوا ما يراد منهم حفظه، فالمعرفة لا تأتي استجابة لأشواقهم الداخلية ولا حلاً لمشكلاتهم المقلقة مما يجعل الدراسة جهداً ثقيلاً يودونه اضطراراً فتبقى أذهانهم موصدة أمام ما يراد منهم تجرُّعُه قسراً إن العقل لا يمكن اغتصابه حتى من صاحبه، فمع أنه يتبرمج تلقائياً من البيئة في الطفولة قبل وعيه، فإنه إذا كَبُر يكون حاضر الوعي حتى وإن كان وعياً زائفاً فلا يتقبل إلا ما يريده هو، فالذهن لا ينفتح إلا من داخله تلقائياً بالتنشئة في الصغر أو بالرغبة الذاتية في الكبر، إن التنشئة دائماً تسبق الوعي الفردي فتحتلُّه وتحدِّد مساره فإذا نشأ الطفل في بيئة لا تعيش همَّ المعرفة ولا تهيم بالعلم ولا تعتني بالكتاب إلا اضطراراً في المقررات المدرسية فإنه سوف ينشأ كارهاً للكتاب وغير مهتم بالمعرفة لذاتها أما إذا نشأ الطفل في بيئة غارقة بالكتاب وتهيم بُحب المعرفة كغاية وليست مجرد وسيلة فإنه ينشأ على هذا الحب فيصبح الكتاب عنصراً أساسياً من أسلوب حياته لا يتحرك إلا وهو معه ولا يسافر إلا وهو برفقته ولا ينام أو يأكل إلا وهو بجانبه ينظر إليه بإجلال ويتطلع إلى ما بداخله بلهفة...
إن الإنسان يولد فارغاً فتملؤه البيئة تلقائياً بما هو سائدٌ فيها ولكنه كائنٌ مكلَّف وعليه أن يسترد ذاته وأن يعيد تشكيل وعيه المبرمج وهذا يقتضي أن يحصل على معارف كافية ممحَّصة عن أمور كثيرة ومتباينة فهو مخلوقٌ ليعرف ومكلَّف بأن يتخذ قرارات معرفية مصيرية إن حياته ومواقفه وأحكامه وآراءه وقراراته وعلاقاته الآنية والمصيرية كلها تتوقف على هذه المعرفة لكنه لن يعرف إلا بمقدار جهده غير أنه لن يبذل هذا الجهد إلا إذا نشأ في بيئة تجعل المعرفة شوقاً ملحاً من الأشواق العامة والخاصة فإذا جرت برمجته في الطفولة على حب المعرفة والاهتمام بها والتلذذ بمعايشتها كجزء من أسلوب الحياة التلقائي فسوف يبقى طول حياته ساعياً إلى المزيد منها مستمتعاً بمباهج تحصيلها ولكن هذا لا يأتي إلا بالامتصاص العفوي والتشرُّب التلقائي ولن يتحقق ذلك إلا إذا وُلد الطفل في مجتمع مغمور بالمعرفة الممحَّصة وبالاهتمام التلقائي بها ومُتلهفٌ إلى المزيد منها إنه في مثل هذا المجتمع المولع بالمعرفة يعيش وسط الكتب واللوحات الفنية والإبداعات العلمية والفكرية والأدبية ويسمع الحديث الدائم عن الإبداع والإنتاج والمعارف والفنون، فهي الاهتمام الأول للمجتمع وهي لذَّته الكبرى وهي تسليته الدائمة فإن لم يولد الطفل في بيئة كهذه فسيبقى كارهاً للدراسة إلى أن يحصل تحول ثقافي في مجتمعه فالذين ينشأون في بيئة لا تعيش مباهج المعرفة لن يكتسبوا من التعليم الرسمي الرتيب حب العلم لأن هذه النقلة النوعية في الاهتمام لا تتحقق إلا بدفءع استثنائي تُستخدم فيه كل الوسائل والمنابر لخلق قيمة عليا للمعرفة بذاتها وبذلك يندفعون تلقائياً إلى الاهتمام بالمعرفة والابتهاج بالعلم غير أن هذا يتطلب اعتماد وانتهاج توجُّه عام يستخدم كل ما هو متاح من وسائل التواصل والتأثير وأهم أدوات هذا التوجُّه هو إشاعة الفكر النقدي وفتح المجال واسعاً لصراع الأفكار وتنافس الاتجاهات في المدارس والجامعات وفي وسائل الإعلام وفي المجتمع كله فلا بد من إثارة اهتمام العقل وإيقاظه من سباته التلقائي واستنفاره بتساؤلات مثيرة وموضوعات صادمة وإعادة تنشيط حب الاستطلاع الفطري واستمالته أيضاً بما يجذبه ليفتح نوافذه وأبوابه ويمتص ما يراد منه فهمه واستيعابه، فهو إذا اهتمَّ ذاتياً أو أحبَّ المادة استوعبها بسهولة، أما إذا أريد إرغامه على الاستساغة فإنه يوصد أبوابه رغماً عن صاحبه وإذا أُرغمت الذاكرة على الحفظ فإنها لا تستقبل إلا بصعوبة شديدة ثم بعد الفراغ من المهمة تتخفف سريعاً من محتوياتها النكدة فتنمحي منها بسرعة لذلك فإنه لا يمكن توطين حب المعرفة وزرع الولع بالعلم وغرس الاهتمام بالأفكار إلا بخطة شاملة تستخدم الإعلام والتعليم والمنابر وكل وسائل التواصل لإعادة تكوين منظومة القيم وتشييد اهتمامات جديدة تحيل المعرفة إلى هم عام وقيمة عليا ومتعة فردية وبهجة شائعة يسعى لها الجميع..
إن المرء إذا اهتم ذاتياً بموضوع التعلُّم فإنه يتعلَّم بسهولة أو تلقائياً دون جهد أما إذا أُرغم على الاهتمام فإن طبيعته ترفض هذا الإرغام إن التعليم النظامي مصادمٌ لطبيعة الإنسان لأنه كائنٌ تلقائي إنه يتحرك بالرغبة فهو وُجدانٌ وميولٌ ورغباتٌ قبل أن يكون عقلاً واقناعاً ومنطقاً فهو يندفع تلقائياً لما يحب وما يلذُّ له وما يرغب فيه إنه يهتم ذاتياً بإشباع حاجاته الجسدية والنفسية والعقلية إنه يتوقد اهتماماً للسعي خلف رغباته الذاتية ويجتهد لرفع الالتباس حين يواجهه وإزالة الحيرة حين تحاصره ويسعى للطمأنينة حين يفقد التوازن كما أنه ينجذب إلى الممتع واللذيذ والمريح وكما يقول برتراند راسل: "إن اللذة الحقيقية جزء من طبيعة التكوين الطبيعي للبشر ما لم تدمِّرها الحالات المعاكسة فالأطفال الصغار يهتمون بكل شيء يشاهدونه ويسمعونه والعالم بالنسبة لهم حافلٌ بالمفاجآت وهم مشغولون بصورة مستمرة بالسعي وراء المعرفة لا المعرفة المدرسية بالطبع بل المعرفة القائمة على الألفة مع الأشياء التي تسترعي اهتمامهم". هكذا هو الفرق النوعي بين التعلُّم التلقائي الذي يأتي استجابة لاهتمامات ذاتية تلقائية والتعليم القسري الذي يريده الآخرون ولا تريده الذات أو لا تشعر بالاهتمام به ولا الإنجذاب إليه، إن الفرد لا يستطيع أن يرغم نفسه على محبة ما يكره أو كُره ما يحب فأمور العاطفة لا تخضع للإرادة وليس حُبُّ المعرفة أو كُره الإلزام عليها مختلفاً عن غيره فإذا لم يكن المرء مُحبّاً للعلم ذاتياً ومن أعماقه فلن يستطيع إرغام عاطفته على التحول من النفور إلى الانجذاب ومن الكره إلى الحب...
إن التعلُّم بدافع الاهتمام الذاتي التلقائي يحيل المعرفة إلى تجربة ذاتية، فالحقائق والمعلومات والوقائع تتحول إلى خبرات شخصية لأنها تأتي لتسد فراغاً كانت الذات قلقة منه ولتجيب على تساؤلات كانت لها محيِّرة ولتحل إشكالات كان يواجهها الفرد فتمده بالراحة والطمأنينة فتذوب المعرفة في النفس وتصير مكوِّناً دائماً من مكوناتها حتى بعد نسيان مصدرها وكما يقول برتراند راسل: "فالوقائع لا تتحول إلى خبرات إلا عن طريق الاهتمام الذي نوليها إياه وما لم تلفت اهتمامنا فلن نصنع منها شيئاً وأي شيء مهم إن هو أثار اهتمامك والإنسان الذي يهتم أفضل ملاءمة للعالم ممن لا يهتم بشيء" فالاهتمام الذاتي التلقائي هو مفتاح قابليات الإنسان وهو مفجِّر طاقاته ومحرك نشاطه وموجِّه سلوكه..
بل إن برتراند راسل يرى أن أهمية الاهتمام لا تتوقف عند سهولة التعلُّم ويُسءر الأداء، بل حتى سعادة المرء هي نتاج التنوع في اهتماماته الذاتية التلقائية، فالإنسان الذي لا تشغله اهتمامات كبيرة ومتنوعة تكون حياته بائسة وقاحلة فيقول: "حين تكثر اهتمامات المرء تكثر فرص سعادته ويقلُّ وقوعه في الفراغ لأنه إن فَقَدَ اهتماماً من اهتماماته يغنيه غيره عمّا فَقَدَه" ثم يؤكد أن على المرء: "أن يهتم بأشياء عديدة ضرورية"، فالاهتمامات الذاتية المتحفزة دوماً هي مثيرات التفكير وهي محاور السلوك...
وإذا كان راسل في القرن العشرين يرى أن الاهتمام التلقائي هو مفتاح النفس البشرية وأنه بوابة طاقاتها الكامنة، فإن جان جاك روسو المعروف بآرائه التربوية الحكيمة في القرن الثامن عشر قد أكد على ذلك بوضوح حيث يقول: "إن الله يصنع جميع الأشياء خيراً أما الإنسان فيتدخّل فيها وتصبح شرّاً وحالما نصبح واعين إحساساتنا فإننا نحاول أن نقترب من الأشياء التي تسببها أو نبتعد عنها وذلك أولاً لأنها سارة أو غير سارة ثم لأنها تلائمنا أو لا تلائمنا وأخيراً بسبب الأحكام المتكوِّنة من الأفكار التي يعطينا إياها العقل حول السعادة والخير وتكتسب هذه الميول قوة واستمراراً مع نمو العقل فكل شيء إذن يجب أن ينسجم مع الميول الطبيعية" إن سلوك الإنسان يحركه الحب انجذاباً ويحركه الكره نفوراً فهو ينجذب إذا أحبَّ وينفُر إذا كره ويستنفر الإنسان طاقته الذهنية والعاطفية إذا استُفزّ ووجه بالتحدي وبصدمات تسائله حول بداهاته وليس من وسيلة أخرى لاستثارة اهتمامه وفتءح أبواب عقله وتفجير قدراته إلا بإضاءة خافيته المظلمة وتفكيك بداهاته المستقرة وتخليصه من القسر وإزالة أسباب انسداد قابلياته وخلق عوامل تدفعه للبحث عن المعرفة الممحَّصة والانجذاب إليها والابتهاج بها...
إن التعليم لا يستطيع أن يؤثر إيجابياً إلا إذا كانت البيئة إيجابية إنه جزءٌ من المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يغمر الناس ويقولبهم وهو مسيَّر بفلسفة المجال المعرفي السائد ومتكيِّف بأهدافها ولا يمكن أن يعلو عليها، فهو محكومٌ بها ومؤطَّر بتوجُّهاتها ومن هنا جاء فشل التعليم في العالم العربي إن البيئة العربية غير حافزة للتعلُّم ولا مثيرة للعقل، فالأجيال العربية تربّت على أن تفخر بالماضي وتتغنى بأمجاده وأن تكتفي به وتشتُم الحاضر ولا تفُكر في المستقبل إنها تتوهم أنها مكتفية معرفياً إلى حد الامتلاء إنها لا تنشأ على التساؤل الحافز ولا على الاستمتاع الدافع فلا نحن ورثنا الاهتمام الذاتي التلقائي بالعلم ولا نحن تداركنا بالنقد والمواجهة بين الافكار ما يزيل عطالة البيئة إن عجزنا عن توثيق علاقة الدارسين بالعلوم الدنيوية واخفاقنا في تحبيب العاملين بالعمل ناجمٌ عن الهجاء الدائم للحاضر والتمجيد المستمر للماضي وإهمال المستقبل فالدارسون مضطرون لاستظهار معلومات عن علوم شُحنتء عقولهم بعدم أهميتها وأنها نتاج الأعداء ومن البديهي أن يتوهم الاكتفاء لن يبحث خارج ذاته عمّا يعتبره أدنى مما هو طارئ على بيئته وقادم من عدوِّه!!...
إن عقل الإنسان وعواطفه لا تُقاد قسراً، فإذا تعومل مع الإنسان دون اعتبار لميوله ورغباته وتلقائيته فلن يُسفر ذلك إلا عن نتائج هزيلة إنه لا يمكن أن يُعلّم الإنسان كُرءهاً وإنما يتعلم إذا استمتع بالمعرفة أو استُنفر بتساؤلات تثير عقله وتستفز عواطفه فالإنسان ليس مادة يجري قسرها وتطويعها وإنما هو نفسٌ تُحبُّ وتكره وتقبل وتدبر وتنجذب وتَنءفُر ولا يمكن الدخول إليها إلا بمعرفة مفاتيحها فلا بد أن يكون موضوع الدرس لذيذاً أو مثيراً ومتحدياً لأن الفرد في حالات اللذة والمتعة أو الإثارة والتحدي يعود إلى تلقائيته فيندفع ذاتياً بدافع داخلي تلقائي وبذلك تحتشد قواه وتتعاضد قدراته إنه يكون بكامل طاقاته الكامنة وبأقصى حيويته وانفتاح قابلياته وكما يقول مكسيم غوركي: "متى كان في العمل لذَّة غَدَت الحياةُ جميلة ومتى فُرض علينا أصبحت الحياة عبودية". فليس متاحاً للإنسان أن يتعلّم تعلماً يرتقي بوعيه وتتلألأ به قابلياته إلا إذا تشبَّع بالرغبة في العلم واللهفة إلى الفهم وليس ممكناً أن يكتسب مهارة الأداء وأن يتقن العمل إلا إذا أحبَّه واستمتع به...
إن موقظ الغرب فرانسيس بيكون قد أدرك أن الرغبة الذاتية هي التي تحقق الاندفاع التلقائي وأنها مفتاح النشاط الإنساني فطالب بإدخالها في كل شيء ففي العرض الذي قدَّمه لفلسفته ليو شتراوس وجوزيف كروبسي في المجلد الأول في كتابهما (تاريخ الفلسفة السياسية) ينقلان عنه أنه يرى أن: "الموجِّه لجميع الأشياء يكون في الرغبة الشديدة التي يجب أن تدخل كل الأشياء وتخرج منها". إن بيكون يرى: "أن الناس يتكونون من رغبات" وأن من يهمل رغباتهم العميقة لن يجد سوى النفور والكلال والعقم. ويؤكد المؤلفان بأن بيكون يعوِّل بشكل محوري على الاندفاع التلقائي فالناس يبحثون عن المرغوب والمحبوب والمثير واللذيذ والمريح والممتع وينفرون من أي شيء يعاكس هذه الاحتياجات التلقائية لقد تشبَّع الغرب تلقائياً بهذه الفلسفة فنشأت الأجيال هناك على اعتبار قيمة المعرفة من أعظم القيم وكان هذا من أبرز أسباب تقدمه لأن حب المعرفة عندهم لم يأت تلقيناً وإنما يرضعونه مع حليب أمهاتهم ويعيشونه واقعاً حياً كعنصر جوهري في أسلوب حياتهم فتحصيل المعرفة ليس عبئاً يتخفَّفون منه وإنما هو متعة غامرة يطلبون المزيد منها إن الذين اكتشفوا لذة المعرفة وتعرفوا عليها وعاشوا بين مباهجها يواصلون البحث بلذة طول حياتهم ويقضون أمتع أوقاتهم مع مصادرها فلا يعتريهم الملل ولا السأم ويُشفقون على الذين يضيقون بالوقت ويحتويهم السأم والملل لحرمانهم من مباهج العقل في أفياء المعارف والفنون والإبداعات.
أما في المجتمعات التي ليس الكتاب عنصراً أساسياً في أسلوب حياتها كما هي حالة العرب فإن الناس لا يعرفون ملذات المعرفة ولا مباهج العيش وسط الكتب لذلك ينفر الدارسون من التعليم لأنه ليس امتداداً للبيئة وإنما هو نشازٌ فيها ودخيلٌ عليها فيصابون بصدمة الانتقال من التلقائية إلى القسرية وبسبب هذه البدايات العسيرة التي واجهوها في أول لقاء لهم بالمعرفة نشأ فيهم كُرهٌ لها وتوتَّرَتء علاقتهم بها لذلك يتوقفون عند بوابة الدخول التي لا تنفتح إلا من داخل النفس فلا يصلون إلى مباهج المعرفة ويظلون جاهلين بها ومحرومين منها ويبقى بينهم وبينها حواجز نفسية عميقة أما الذين اكتشفوا هذه المباهج فإنهم يجدونها غاية في ذاتها ووسيلة لغاية أعظم وأدوم وهم في بحثهم الدائم لا يسعَون لشهادة ولا يبحثون عن وظيفة ولا يتطلعون إلى ترقية وإنما المعرفة ذاتها مغنمٌ عظيم ولذة عزيزة وغزيرة وبهجة مستمرة ومتجددة ومثلهم الذين وجدوا لذة الإنجاز ومتعة المهارة يواصلون الكدح اللذيذ دون أن يصابوا بالملل أو التعب أو الضجر أو السأم لأن العمل يفيض من نفوسهم فيضان الماء من النبع الفائر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.