من منطلق نظرية أن الإنسان كائن تلقائي فإنه لا إنجاز لعمل كبير ولا بلوغ لغاية مهمة من غير اهتمام تلقائي قوي مستغرق لكن هذا الاستغراق الضروري لا يتعارض مع تنوُّع الاهتمامات.. فالاهتمام التلقائي القوي المستغرق بأي مجال لا يعني التفرُّغ له كل العمر والانحصار فيه دائماً وإنما يعني الاندفاع إليه تلقائياً بمحرك ذاتي داخلي وإعطاءه العناية الكافية حتى يتحقق هضمه إن كان علماً وإتقانه إن كان عملاً فالإنسان إذا كان متفتحاً ومتنوع الاهتمامات يتحقق له العمق والنضج في أي مجال يستفرغ فيه اهتمامه ويعطيه من الوقت والجهد والتركيز ما يتناسب مع أهميته حتى ينجزه ثم ينصرف عنه إلى مجال أو موضوع آخر.. إن الاستغراق في أي مجال لا يعني الانقطاع له دائماً وإهمال غيره وإنما يعني أن الإنجاز الجيد لأي عمل يتطلب وجود رغبة ذاتية تنساب دون أي تكلُّف أو اضطرار بحيث يتجه إليه الإنسان تلقائياً بكامل طاقته العقلية والعاطفية أما الوقت الذي يستغرقه ذلك فيتحدد ببساطة أو تعقيد موضوع الانشغال وبضيقه أو اتساعه فقد لا يأخذ من الفرد سوى لحظات أو ساعات أو أياماً معدودات وقد يأخذ منه شهراً أو أشهراً وقد يستغرق منه سنة أو سنوات حسب عمق المجال واتساعه وجدته عليه وغُربته عنه.. أما إذا كان اهتماماً فكرياً ضخماً ومتشعباً ومتنوع العناصر ومتعدد المجالات فإنه قد يستغرق العمر كله كالاهتمام بتكوين رؤية موضوعية ناضجة عن مسيرة الحضارات الإنسانية منذ بداية التاريخ الإنساني وحتى الآن والتعرف على عوامل الصعود والانحدار وأسباب الازدهار أو الاندثار وتتبع العوامل المؤثرة أو الفاعلة مما يعني البحث في كل المصادر والتنقيب في كل المظان والتعرف على كل البقاع والإلمام بطبيعة كل الثقافات والاطلاع على تواريخ مختلف الأمم والشعوب إلى غير ذلك مما يفوق الحصر فالجهد يتركز حول اهتمام محوري لكنه يتغذى من موارد شديدة التنوع والتشعب ورغم ضخامة المهمة فإنه يجد لذة في الجهد ومتعة في الاكتشاف ويجد نفسه يخوض مغامرة صعبة لكنها مبهجة.. أما كيف يكون الاهتمام خلاقاً وناجعاً فإن المعيار هو أن يكون الإنسان مندفعاً إلى المجال برغبة ذاتية من داخله ومقتنعاً بأهميته وجدواه بعقله وعواطفه وليس اهتماماً إلزامياً مضطراً إليه انه حين يستغرق بموضوع وينجزه بفاعلية واتقان وتشبع به يفرغ منه ويصبح من عتاده الشخصي حيث يصير ذائباً في كيانه وممتلئاً به ومنساباً منه انسياباً تلقائياً متدفقاً سواء كان معرفة نظرية أو مهارة عملية كما يحصل حين يتدرب الفرد على الطباعة أو يتعلم لغة أجنبية أو حين يتحول من تخصصه أو من مجال اهتمامه إلى مجال آخر مختلف فيمحضه من الاهتمام القوي المستغرق ما يتناسب مع أهميته ومع عمقه واتساعه وجدته وهكذا ينتقل من مجال إلى غيره ويجد من الوقت والطاقة ما يمكّنه من امتلاك المعرفة أو المهارة في مجالات عديدة فلا يوجد تعارض بين تنويع وتوسيع الاهتمامات وتركيزها فالفرد يملك من الطاقة مخزوناً عظيماً كامناً ولكن هذا المخزون سواء في قابلية التعلم أو الإبداع يظل معطلاً حتى تفجره الرغبة الفائرة ففي أكثر الحالات لا يستخدم الإنسان سوى جزء يسير من طاقته القابلة للإثارة ومن هذا الإهمال للطاقة الكامنة يأتي الكلال في العلم والعمل.. إن الفرد لا يستطيع هضم ما يريد من العلم أو المهارة إلا بالتركيز الشديد والاهتمام التلقائي والرغبة الجياشة لكنه بهذا الجهد المركز والمنظم يُنجز ما يريد إنجازه ثم يفرغ منه لغيره إن الموضوعات تختلف عمقاً واتساعاً وتتباين بساطة وتعقيداً وبمقدار اختلافها وتباينها تختلف حاجتها من الوقت ومن الاهتمام والتركيز لكن في كل الأحوال لا يوجد مجال يستهلك كل عمر الإنسان أو كل وقته أو كل اهتمامه إلا إذا كان اهتماماً فكرياً جامعاً لمجالات شتى من مجالات العلوم والفنون وحركة الفكر والفعل فالمهتم الذي من هذا المستوى يكون مدفوعاً باهتمام محوري لكنه شامل فهو يريد أن يتعرف على تناوبات المد والجزر في الحياة البشرية وتحديد مسارات الأفكار شرقاً وغرباً وإدراك عوامل الاستجابة و معوقاتها وأسباب الصعود والسقوط إلى غير ذلك من الموضوعات التي تفوق الحصر ففي هذه الحالة يكون طموح الباحث عاماً وشاملاً وتكون موضوعاته شديدة التنوع والاتساع ومع هذا التشعب الهائل فإنه في كل ذلك يدور حول محور واحد ويسعى لتكوين رؤية جامعة إنه يستطلع عن كل الأرض ويزور ببحثه كل المواقع ويتعرف فكرياً على كل الأمم ويلتقي معرفياً بكل الشعوب ويقف أمام مشاكل الأقليات والمهمشين وفي كل ذلك يتحرك وأمامه غاية واحدة فهو مدفوع باهتمام مركزي إنه يبحث عن الأسباب الجامعة حتى ينتهي إلى رؤية عامة شاملة تتكوَّن عناصرها من شتى الروافد فالتركيز لابد منه لكن المهتم يستطيع أن ينقل اهتمامه من مجال إلى آخر وأن يهضم ويتقن في كل المجالات بمقدار الجهد الذي يبذله في أي منها.. إن المنشار لا يقطع إلا إذا تم تركيزه على نقطة واحدة وكذلك عمليات الثقب والخرق وغيرها ولكن هذا التركيز لا يستمر وإنما ينتهي بانتهاء عملية القطع أو الخرق وبعدها يكون بوسع الإنسان أن ينقل هذا التركيز من موضع إلى آخر وأن يكون عمله ناجعاً في كل الحالات مهما اختلفت مواقع التركيز أو تعددت موضوعاته.. إن الكثير من الناس في المجتمعات المتخلفة يتوهمون بوجود تعارض بين تنويع الاهتمامات وتركيزها أو بين التخصص وتنويع المعارف وهذا هو أحد الأوهام السائدة في المجتمعات العربية وهو يتضافر مع المعوقات الأخرى التي تئد المواهب وتعتقل القدرات وتثبط العزائم وتصيب الأمة بالعقم وتلحق الغبن بذوي القدرات المتميزة والبصائر النافذة والاهتمامات المتوقدة فالإنسان يستطيع أن يجمع بين تنويع الاهتمامات وتركيز الجهد وأن يوفق بين التخصص الدقيق والاطلاع الواسع بل وأن يغير تخصصه حسب تغير اهتماماته كما تؤكد ذلك أمثلة عديدة غير قابلة للحصر في الغرب والشرق وكلها تشهد بأن الاهتمام القوي المستغرق هو مفتاح الطاقة الإنسانية فتخصص الإنسان ليس محصوراً بما يحمل فيه من شهادات دراسية أو أكاديمية وإنما تخصصه الحقيقي هو الذي يندفع إليه ذاتياً ويستغرق اهتمامه ويستفرغ فيه طاقته سواء وافق موضوع التخصص الأكاديمي أو خالفه ولقد كانت غفلتنا عن هذه الحقيقة الأساسية ذات نتائج سيئة أدت إلى جمود المواهب وتعطيل الطاقات والاعتماد على الشكليات في تحديد معيار التأهيل وأدى ذلك إلى تزكية من لا يستحقون التزكية وعدم الاكتراث بمن تزكيهم أعمالهم وأفكارهم وكل ذلك ناتج عن إغفال الدور المحوري للاهتمام الذاتي التلقائي بوصفه المعيار الذي يجب الاحتكام إليه.. إننا نُغفل حقيقة أن الإنسان كائن تلقائي وأن طاقاته تتجه مع اتجاه اهتمامه العفوي وليس مع الاهتمام القسري وهذه الحقيقة تقتضي أن ندرك أنه ليس بوسع المرء أن يبدع في أي مجال ولا أن يتقن أي عمل ولا أن يهضم أية معرفة إلا بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق الذي ينبع من أعماق ذاته: إقبالاً على المجال ورغبة فيه واستمتاعاً به واقتناعاً بجدواه كما أننا نغفل عن أن الإنسان في الغالب لا يستخدم سوى جزء قليل من قابلياته فهو يملك طاقة كامنة هائلة لكنها تبقى خاملة وساكنة وغير مستثمرة حتى يحركها اهتمام متوقد من داخله غير أن اهتمامات الفرد مرتهنة بقيم المجتمع الذي ينشأ فيه فإذا نشأ في مجتمع متخلف فلابد أن تكون اهتماماته غير ملائمة لمتطلبات هذا العصر بعلومه ومهاراته ومجالات اهتمامه فالاهتمامات في الثقافات القديمة تختلف نوعياً عن الاهتمامات في ثقافة العصر فإذا التحق الشباب بالتعليم الشكلي تعاملوا مع مواد ومقررات وموضوعات غريبة عن الاهتمامات المألوفة السائدة في بيئتهم وهي الاهتمامات التي تشرّبوها منذ ولادتهم وتشكلوا بها عقولاً وعواطف وأخلاقاً فيهتمون بالدراسة اهتماماً اضطرارياً فيكابدون استيعاب المواد دون أي تلاؤم معها ولا حباً لها ولا رغبة فيها مما يستبقي أذهانهم موصدة أمام ما درسوه فلا تندمج العلوم في كيانهم الذهني والعاطفي ولا تؤثر في أخلاقهم ولا في طريقة تفكيرهم ولا في منظومة قيمهم وإنما تبقى طلاء خارجيا ينسلخ بمجرد أداء الامتحانات.. إن هذه الاختلافات النوعية بين الاهتمامات في الثقافات القديمة واهتمامات العصر هي العقبة الكبرى التي تحول دون توطين الروح العلمية وتعوق اكتساب مهارات الأداء في العلم والعمل ليس هذا فحسب بل إن طريقة التفكير الأحادية ومنظومة القيم المغلقة لم تكتف بهذه الحواجز الثقافية المانعة بل أنتجت أوهاماً جديدة فمع جلب شكليات التعليم من الغرب أخذت المجتمعات المتخلفة فكرة تقسيم العمل ومبدأ التخصصات الدراسية والأكاديمية ولكن ليس بعقلية الغرب المنفتحة على كل الآفاق والمتغذية من كل الروافد وإنما برؤية أحادية منغلقة وساذجة فشاع فهم خاطئ بأن التخصص يعني الاحتباس داخل المجال الضيق الذي تخصص فيه فهو يفكر ضمن نطاق مغلق لا يبرحه معزول عن الفروع الأخرى للمعرفة ويثور إذا اقترب باحثون مهتمون إلى مجاله من خارجه حتى لو كانوا مدفوعين باهتمامات ذاتية متوقدة تجعلهم أولى بالمجال وأشد استيعاباً له فأصبح التخصص نوعاً من السلطة والحيازة والامتلاك يذاد عن حدوده ويُحتكر الكلام فيه وبذلك يصاب المجتمع بالجذب وتتغوّل فيه الرؤية الأحادية الخانقة!!!. إن الإنسان إذا اهتم بشيء اهتماماً حقيقياً نابعاً من أعماق ذاته فإنه يغرق فيه بكل فكره ووجدانه وجوارحه فإذا استوعبه وهضمه إن كان علماً أو أنجزه وأتقنه إن كان عملاً ينتقل بعده لموضوع آخر ليمحضه من الاهتمام والتركيز والاستغراق ما يتيح له أيضاً أن يتقنه إن كان أداء أو يهضمه ويندمج فيه ويحيله إلى أحد مكوّناته الذاتية إن كان علماً بل إن الإنسان يستطيع في اليوم الواحد أن يبحث في العديد من الموضوعات بتركيز وعناية دون أن يؤثر هذا التنقل على مستوى الاهتمام والتركيز والوضوح فالمهم أن يكون اهتماماً ذاتياً تلقائياً وليس قسرياً كما أنه يستطيع أن يؤدي ضمن حيز زمني متصل العديد من الأعمال المختلفة بمهارة وإتقان دون أن يؤثر مجال على آخر بل إن تعدد المهارات المعرفية والعملية يجعلها تتساند فيما بينها في بناء القدرة العامة للفرد إضافة إلى القدرات الخاصة فالنهر يصبح زاخراً بتعدد الروافد التي تصب فيه.. وهكذا يمكن للفرد أن ينوّع مجالات اهتمامه وفي نفس الوقت يلتزم بالتركيز والاستغراق فلا تناقض بين هذه وتلك ليس هذا فحسب بل إن تنويع مجالات المعرفة وتعدد مجالات الخبرة يتيح للإنسان أن يستوعب وأن ينجز بسرعة ودقة أي مجال يتجه إليه فعمق المعرفة مشروط باتساعها وعمق الخبرة في أي مجال يساعد على سرعة اكتسابها في أي مجال آخر فالمعرفة البشرية مترابطة بعلاقات وثيقة ومثلها مجالات الخبرة فما يفيد في هذا العلم أو في هذا العمل يفيد أيضاً في أي مجال آخر وكلما اتسعت معرفة الفرد وتنوعت خبراته تكوّنت لديه شبكة من المهارات المعرفية والعملية وبذلك فإن المجالات المتنوعة يضيء بعضها بعضاً فكلها روافد لبناء القدرة العامة وتشييد القدرات الخاصة فواسع المعرفة ومتنوع الخبرة حين يعمل أو يبحث في أي مجال يجد أنه يمشي مع أرض ليست غريبة عليه وإنما يجد أنه يعرف الكثير من معالمها وأفيائها.. إن تنوّع الفرد وتنوّع خبراته يبني له قدرة عامة تكون بمثابة القائد والموجه والمرشد للقدرات الخاصة وبها تتكوّن لديه طاقة حدسية خارقة وبصيرة عامة نافذة تساعده أينما تحرك كما أن هذا التنوع ينير عقله ويعطيه مراناً وفهماً عاماً يجعله متآلفاً مع آليات الأداء ومع لغة ومصطلحات ومفاهيم العلم والفلسفة والأدب والسياسة والاقتصاد وكافة المعارف والخبرات الإنسانية فإذا عمل أو بحث في أي مجال جديد فإنه لا يشعر بالغربة فيه وإنما يجد نفسه متآلفاً معه ويرى أنه يتعامل مع موضوعات سبق له أن مرّ بها ويتحرك ضمن أرض يعرف الكثير من معالمها لأن تنوع المعرفة والدربة في البحث قد زوّداه بقدرات ورؤى ومهارات عامة فلا يبقى عليه في بحوثه المتنوعة سوى استيعاب التفاصيل داخل كل مجال لذلك فإن المجال أو الموضوع الذي يحتاج شهراً أو شهوراً من الدارس العادي أو ما يستعصي فهمه على المبتدئ لا يحتاج ممن تنوعت معارفه وخبراته سوى ساعات أو أيام على الأكثر.. هذه هي حقيقة العلاقة بين عمق المعرفة واتساعها وبين تنوع الاهتمامات وتركيزها وكذلك بين أنواع مجالات الخبرة ولكننا نحن العرب حين استوردنا من الغرب نظم التعليم وأتينا بفكرة التخصص وتقسيم العمل أخذناها برؤيتنا الأحادية المغلقة التي لا تعرف من الأشياء سوى جانب واحد فالمتخصص في المجتمعات المزدهرة يتشرّب الروح العلمية كمطلب مبدئي ويمتص مهارات التعلم المستمر فتخالط نفسه وتوجه تفكيره وتؤازره في كل مساعيه فهي البوصلة التي توجه سلوكه.إن المتعلمين هناك من كافة التخصصات يشتركون في اكتساب الروح العلمية التي تتأسس على أولوية الشك وتنتهي إلى الاحتمال والترجيح وليس اليقين والقطع إن الروح العلمية هي العنصر الأهم في التعليم فإذا امتلك الإنسان هذه الروح الهادية فلن يستطيع أن يواصل بنفسه منفرداً إثراء عقله بمختلف المعارف ومع تنوع معارفه واتساعها وعمقها فإن هذه الروح الناضجة تجعله متواضعاً وغير منتفش إنه يكون قارئاً وباحثاً ومنقباً ومهتماً في الكثير من المجالات خارج مجال الاختصاص ومع ذلك يبقى شاعراً بقصور معارفه ومدركاً محدودية اطلاعه وحريصاً على المزيد من بناء ذاته وتوسيع آفاق عقله وتنويع اهتماماته فهو يعد معارفه مهما بلغت مجرد مقاربات واحتمالات وترجيحات وليست حقائق قطعية نهائية.. إن المتعلمين في المجتمعات المزدهرة مدفوعون ذاتياً باهتمام تلقائي إلى مواصلة التعلم من المهد إلى اللحد لأنهم يتشربون حب المعرفة منذ الطفولة فيعتادون على ذلك وتصبح من اهتماماتهم الذاتية التلقائية إنهم ينشأون على مسلمة أن المعرفة الممحصة قيمة مركزية في حياتهم فالقراءة العامة عشق عام وعارم وهي هناك من انشغالات الناس اليومية الدائمة فهي تستغرق أغلب أوقات الفراغ والناس يحملون معهم الكتب أينما ذهبوا إنهم يقرأون في الطائرة وفي القطار وفي قاعات الانتظار بل يقرأ أحدهم والحلاق يعمل في حلاقة شعره .إن التعلم المستمر من أوسع مجالات استثمار الوقت ومن أهم عوامل تنمية القدرات فالقراءة المتنوعة هي الوسيلة الأولى للتسلية وهي العامل الأهم لتطوير الذات فالمعرفة قيمة كبرى في المجتمعات المزدهرة إن قيمة الفرد مرهونة بمقدار علمه ومهارته وليست مرتبطة بأصله وانتمائه لذلك فإن الناس لا يتكلفون الاهتمام بهما وإنما يندفعون إليهما تلقائياً لأن هذا الاهتمام قد نما مع نموهم فصار مندمجاً في تكوينهم الذهني والعاطفي.. من بداهات الحياة في المجتمعات المزدهرة أن الإنسان ليس إلا ما تعلم وأن العلم لا يأتي تلقائياً وإنما شرطه الأول الرغبة فيه والحرص عليه والاهتمام به والعناية بتنويع مصادره إنهم يتربون على ذلك وينشأون عليه فهو من البداهات التلقائية أما عندنا في العالم العربي فإن التخصص يعني الحصول على الشهادة بمعزل عن الروح العلمية بل بتكريس ما يتعارض معها فالمعرفة تأتي لتأكيد السائد وليس لنقده كما أن المعرفة الممحّصة لم تكن هدفاً منذ البدء لأنها ليست من القيم المهمة في المجتمع ولا هي من وسائل المتعة في حياة الناس بل إن ظاهرة إقدام الكثير من الطلاب في المجتمعات العربية على تمزيق الكتب وقذفها في القمامة بعد الامتحانات تؤكد أن التعليم الشكلي في العالم العربي خلق قطيعة فظيعة مع المعرفة بدلاً من أن يخلق الرغبة فيها والتعلق بها والتعرف على ما فيها من مباهج عظيمة..