كثير من المديرين ورؤساء الأقسام خصوصاً والموظفين عموماً يعترض بشكل متشنج وهجومي على اعتماد إدارة المنظمة للمساءلة أو للمحاسبة أو الحسم. ولأهمية صياغة وتأكيد معنى هذا الأمر ليكون منهجاً يتعامل به المديرون مع هذا الاعتراض وهذا التشنج الشائع وليُطلعوا عليه الشخص المعترض وكل شخص يحصل منه رد فعل غير موزون وهجومي ومتشنج على الحسم أو المساءلة. وبيان هذا المنهج وفلسفته على النحو الآتي: أولاً: إنه من العجب أن تجد ازدواجية كاملة لرد فعل مدير أو مسؤول ما تجاه الحسم أو المساءلة، إذ كيف يعتقد مدير أو مسؤول أو موظف ما بموضوعية وعدالة وسلامة ومنهجية ما يمنح له من نقاط أو مكافآت أو تقدير أو زيادة سنوية أو غيرها ثم إذا حسم عليه أو حوسب تشنج وأُحبط وانفعل واحتج على سلامة وموضوعية وعدالة الحسم أو المحاسبة وأقام الدنيا ولم يقعدها وانقلب على وجهه؟! إنه لعجب! ولا عجب إذا تأملنا في أربع آيات من كتاب الله تعالى تحكي حال الإنسان مع ربه تعالى الذي خلقه وأنعم عليه بكل النعم، فكيف بحاله مع رئيسه وزميله الإنسان! 1- قول الله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون)! سورة الأعراف آية "131" يقول ابن سعدي رحمه الله في (تيسير الكريم الرحمن) في تفسير هذه الآية: أي: فإذا جاءهم الخصب وإدرار الرزق، قالوا نحن مستحقون لها، فلم يشكروا الله عليها.. وإن يصبهم قحط وجدب، يقولوا إن ما جاءنا بسبب مجيء موسى، واتباع بني إسرائيل له. ألا إن ذلك بقضاء الله وقدرته، ليس كما قالوا، بل إن ذنوبهم وكفرهم هو السبب في ذلك. 2- قول الله تعالى - عن حالة سيئة مقيتة مخزية نعوذ بالله تعالى منها دائماً وأبداً -: (ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) سورة الحج آية "11". يقول ابن سعدي في تفسير هذه الآية: أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان، لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه، إما خوفاً، وإما عادة، على وجه لا يثبت عند المحن.. فإن استمر رزقه رغداً، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه. فهذا، ربما أن الله يعافيه، ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه. وإن أصابته فتنة من حصول مكروه، أو زوال محبوب، ارتد عن دينه. وخسر الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا، فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأساً لماله، وعوضاً عما يظن إدراكه، فخاب سعيه، ولم يحصل له إلا ما قسم له، وأما الآخرة، فظاهر، حُرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واستحق النار، وذلك هو الخسران الواضح البيّن. 3- قول الله تعالى: (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسّه الشر فيئوس قنوط @ ولئن أذقناه رحمة منّا من بعد ضرّاء مسته ليقولن هذا لي)! سورة فصلت آية "49"، "50". يقول ابن سعدي في تفسير هذه الآية: أي: هذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وعدم صبره وجلده، لا على الخير ولا على الشر، إلا من نقله الله من هذه الحال إلى حال الكمال. فالانسان لا يمل دائماً من دعاء الله، في الغنى والمال والولد، وغير ذلك من مطالب الدنيا، ولا يزال يعمل على ذلك، ولا يقتنع بقليل ولا كثير منها، فلو حصل له من الدنيا ما حصل، لم يزل طالباً للزيادة! وإن مسه مكروه كالمرض والفقر وأنواع البلايا، ييأس من رحمة الله تعالى، ويظن أن هذا البلاء هو القاضي عليه بالهلاك، ويتشوش من إتيان الأسباب على غير ما يحب ويطلب.. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات، فإنهم إذا أصابهم الخير والنعمة والمحاب، شكروا الله تعالى، وخافوا أن تكون نعم الله عليهم استدراجاً وإمهالاً، وإن أصابتهم مصيبة في أنفسهم وأموالهم وأولادهم صبروا، ورجوا فضل ربهم، فلم ييأسوا. ثم ذكر تعالى حال هذا الإنسان الذي لا يسأم من دعاء الخير وأنه إذا مسّه الشر فيئوس قنوط، بأنه إذا عافاه الله تعالى من هذا الشر الذي أصابه بأن عافاه من مرضه، أو أغناه من فقره، فإنه لا يشكر الله تعالى، بل يبغي ويطغى، ويقول (هذا لي) أي أتاني لأني له أهلٌ وأنا مستحق له! 4- قول الله جلَّ في علاه وحكمته وعظم في تمام علمه بخلقه سبحانه وتعالى: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن@ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن @ كلا...)! سورة الفجر آية "15" إلى "17". يقول ابن سعدي في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه، وأنه إذا ضيق عليه رزقه، فصار بقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له، فرد الله عليه بقوله (كلا) أي: ليس كل من نَعّمتُه في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهانٌ لدي، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ومن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل. وأيضاً، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط، من ضعف الهمة، ولهذا لامَهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين في الآيات التي بعدها. ثانياً: إنه لمن العجب أن تجد أكثر الناس غير شاكرين وغير حامدين لربهم عند النعماء وعند حصول المطالب والخيرات، ولا عجب إذا تأملنا قول الله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) والتي وردت في أكثر من موضع وبصيغ متعددة في الكتاب العزيز. ذكرت هذا لكي نتأمل في حال كثير من الناس عند النعماء والسراء وحصول المطالب وأنهم غير شاكرين مما قد يعرضهم لعقوبة الله وسخطه وزوال نعمه نعوذ بالله من ذلك. لأنه بالشكر والاعتراف والحمد تدوم النعم والمنن وتحفظ وتزداد. ولا أذكر هذا لكي ينتظر المديرين أن يشكرهم مرؤوسيهم من مديرين وموظفين، لأن الأصل أنهم يقومون بما يقومون به من شكر وتقدير ومحاسبة قياماً بأمانة وواجب المسؤولية بما يرضي الله تعالى، سواء رضي الناس (الموظفين) أم سخطوا في حالات الشكر أو حالات المحاسبة، فكما قال الله تعالى: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنيٌّ حميد) سورة لقمان آية "12". يقول ابن سعدي في تفسير هذه الآية: أخبر الله تعالى أن شكر الشاكرين، يعود نفعه عليهم، وأن من كفر فلم يشكر الله، عاد وبال ذلك عليه، والله غني عنه، والله حميد فيما يقدره ويقضيه على من خالف أمره. ثالثاً: أرى ألا يُقبل أي اعتراض أو رفض على حسم أو مساءلة صادرة من عند مدير معين أو باعتماده إلا من موظف سبق له أن اعترض على المنح أو الشكر أو الزيادة أو التقدير! فمن يعترض على عدم استحقاقه للحسم أو المساءلة من مديره فإنه يجب عليه أن يعترض أيضاً على عدم استحقاقه للمنح والشكر من نفس المدير وإلا فلا قبول لاعتراضه على الحسم والمساءلة! رابعاً: الرجال الأوفياء من المديرين والمشرفين خصوصاً والموظفين عموماً من الذين يعملون بإخلاص وصدق عملي نابع من قناعة وإيمان وصدق حقيقي هم فقط الذين يكبرون ويسمون أكثر وأعلى عند الامتحان والشدّة والمحاسبة، والتي تبيّن صدق إخلاصهم ووفائهم ونبلهم! وهؤلاء هم خلاصة الأصحاب والأحباب الذين يواصلون الطريق مع الإدارة نحو المجد والعلا بإذن الله تعالى وتوفيقه وجوده وكرمه. خامساً: لا يجوز أن تكون منظماتنا (حكومية وخاصة) مثل أكثر المنظمات، من حيث أنه إذا قصر الموظف نُصح ثم حوسب أو حسم عليه وإذا قصّر مديري الإدارات وكبار المسؤولين تُركوا! فذلك علامة الخذلان وبوادر الهلاك، نعوذ بالله تعالى منها. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم، كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الشريف تركوه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. سادساً: كل ما سبق قائم في حق الرجال والنساء، مديرين ومديرات، موظفين وموظفات، رؤساء ورئيسات، مشرفين ومشرفات. والله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا دائماً أبداً رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يرزقنا دوام الصدق والإخلاص لوجهه الكريم سبحانه وتعالى في كل أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا، وأن يهدينا جميعاً دائماً أبداً لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو، إنه أكرم مسؤول لا إله إلا هو الحي القيوم السميع المجيب. وصلى الله على نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليماً كثيراً. @ مستشار وخبير إداري