كتب الأستاذ نجيب عصام يماني مقالًا بعنوان (الإجهاض وحديث نفخ الروح)، تضمن ثلاث نقاط: الأولى: فتوى فضيلة مفتي مصر، بعدم جواز الإجهاض بأي حال من الأحوال بعد مضي (120) يومًا على الحمل إلا إذا تعرضت الأم للمخاطر، والحجة في ذلك أن الجنين بعد هذه المدة يكون قد نفخت فيه الروح فيكون الإجهاض بمثابة قتل النفس. وهذه الفتوى تعتمد على حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يذكر فيه أن الملك ينفخ في الجنين الروح بعد هذه المدة. الثانية: أن الروح هي التي تهب الحياة للجسم الذي تحل فيه وبخروجها منه يموت هذا الجسم، وقطع بأن هذا علم ضروري قطعي مشاهد بالعين المجردة لا ينكره احد، وفي نفس الوقت أقر أيضًا بأن الناس لا يعلمون عن الروح شيئًا كما قال تعالى: (ويسألونك عن الروح * قل الروح من أمر ربي). الثالثة: أفاض فيها بذكر مظاهر ومراحل الحياة التي يتمتع بها الجنين منذ كونه (حوينا) يلتحم بالبويضة، وذكر تفاصيل طبية كثيرة، وخلص إلى التساؤل: ما معنى نفخ الروح في جسم ينبض بالحياة منذ الثانية الأولى؟ وما معنى ما ورد في الحديث أن الملك يكتب فيما يؤمر بكتابته -تحديد جنس الجنين ذكرًا أو أنثى، إذا كان الطب الحديث يستطيع عزل (الحوينات) الذكرية عن الأنثوية، وبالتالي اختيار جنس الجنين قبل التلقيح وتحديده في الثانية الأولى من التلقيح؟ ثم قرر بعد هذا العرض المستفيض أن حديث نفخ الروح في الجنين في بطن أمه ينبغي ألا يعمل به لأن الجنين كائن حي منذ حصل التلقيح، فلا معنى لنفخ الروح فيه ولا معنى لتحديد جنسه؟! أقول: تلك دعوة متعجلة خطيرة، واجتراء على أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بادعاءات واهية كما سأبين فيما يلي: أولًا: يقول الكاتب إنه يكفي لإيقاف العمل بالحديث ما جاء في قوله تعالى من سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة. ثم أنشأناه خلقًُا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)، لأنه -بزعمه- لم تأت في الآية (حكاية) نفخ الروح، ولا تحديد الجنس. أقول؛ بل قوله تعالى: (ثم أنشأناه خلقًا آخر) دليل يؤيد ما ورد في الحديث من نفخ الروح بعد هذه المراحل. وقد اختار الطبري رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى (ثم أنشأناه خلقا آخر) قول القائلين بأن معناه: نفخ الروح فيه، قال وذلك أنه بنفخ الروح فيه يحول خلقًا آخر إنسانًا، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها؛ من نطفة، وعلقة، ومضغة، وعظم. وبنفخ الروح فيه يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية. وتأمل قول الله تعالى في سورة السجدة: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون)، فقد جاء قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) بعد ذكره سبحانه أنه جعل نسل الإنسان من سلالة من ماء مهين، ولعل في ذلك إشارة إلى نفخ الروح في كل نسمة من بني آدم أراد اكتمال خلقها داخل الرحم، قال أبو السعود في تفسيره (سواه) في الآية؛ أي عدله بتكميل أعضائه في الرحم، وتصويرها على ما ينبغي، قال: (ونفخ فيه من روحه) أضافه إليه تعالى تشريفًا له وإيذانًا بأنه خلق عجيب، وصنع بديع، وأن له شأنًا له مناسبة إلى حضرة الربوبية. ثم انظر إلى قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون) فهذه النعم المتميزة في الإنسان على سائر المخلوقات الأخرى، هي مناط شكر الله تعالى وهي أيضًا مناط التكليف والمخاطبة من الله تعالى لهذا المخلوق بما ورد في الكتاب المبين المنزل على المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. وأما كون خلية الجنين (البويضة الملقحة) تنبض بالحياة، فليس ذلك - فتحًا - علمناه من العلم الحديث، وإن كان العلم الحديث أكده، وفصله وبينه، بما توفر لديه من آلات الكشف والتحليل المتقدمة، لكنه بمجمله معلوم، انظر إلى ما جاء في تفسير شيخ المفسرين الطبري في قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)، فقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أن المقصود بالإنسان ولد آدم، والسلالة: (صفوة الماء)، وقال مجاهد بأنها: (مني آدم)، قال الطبري: وهذا أولى بالصواب لدلالة قوله تعالى: (ثم جعلناه في قرار مكين)، لأنه معلوم أنه لم يصر في قرار مكين إلا بعد خلقه في صلب الفحل. أقول: تأمل قول الطبري: "إلا بعد خلقه في صلب الفحل" فاتضح أن من المعلوم لديهم؛ أن النطفة كائن حي محمول في أصلاب الرجال. وفي تفصيل مراحل التلقيح داخل الرحم وتطور النطفة في أيامها الأولى، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى، كما ذكر ذلك الحافظ في فتح الباري، كتاب القدر، إن المني إذا اشتمل عليه الرحم ولم يقذفه استدار على نفسه واشتد إلى تمام ستة أيام فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب والدماغ والكبد.. ثم قال: وأيهما الأسبق؟ قال والأكثر: على أنها نقطة القلب، وقال قوم: أول ما يخلق منه السرة لأن حاجته من الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه (أي القلب والدماغ والكبد)، فإن من السرة ينبعث الغذاء. وفي هذا دليل على أن علماء الشريعة يعلمون، بما عرضناه من تفسيرهم آيات القرآن الكريم، وشرحهم الحديث النبوي الشريف، أن الجنين كائن حي يتخلق في بطن أمه منذ قراره في الرحم، ولم يتعارض ذلك، وهو لا يتعارض قطعًا، مع ما ورد في الحديث عن الملك ونفخ الروح في الجنين بعد المدة التي حددت. وتأمل أخي قول الله تعالى في سورة الأنعام آية رقم (98) (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) قال جمع من المفسرين: فمنها مستقر في الأرحام، وعلى ظهر الأرض وباطنها، ومنها مستودع في أصلاب الرجال. وفي أول سورة النساء يقول الله تعالى في سورة النساء آية رقم (1): (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا). فالخلق بدأ من آدم عليه السلام، قال سبحانه (من نفس واحدة) ومنها زوجها ثم تناسلت الحياة وانتقلت، وبث سبحانه منهما رجالًا كثيرًا ونساء، لذا فإن كل الحقائق التي أجهد الكاتب نفسه في بيان تفاصيلها عن تكون الجنين، وحيوانيته، قبل نفخة الروح المذكورة في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي معلومة، وقد خاطب الله تعالى الناس أجمعين وبين أن خلقهم من (نفس واحدة) ودقق أخي في لفظة (نفس واحدة)، فالنفس يعبر بها عن الحياة ومظاهرها وتدبر قوله تعالى في الآية (وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء) فهي إشارة إلى أن الخلق أجمعين يستمدون حياتهم بعضهم من بعض، بالالتقاء بين الذكر والأنثى، وابتداء من نفس واحدة هي أصل الحياة. ثانيا: النفس، هي التي يعبر بها عن الحياة، وهي التي تقبض عند الوفاة، وجميع الآيات التي وردت في موت الإنسان ووفاته جاء التعبير عنها بالنفس، تأمل قول الله تعالى في سورة الزمر آية رقم (42): (الله يتوفى الأنفس حين موتها)، وقوله تعالى في سورة آل عمران آية رقم (145): (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا)، وقوله تعالى في سورة لقمان آية رقم (34):(وما تدري نفس بأي أرض تموت)، وقوله تعالى في سورة العنكبوت آية رقم (57): (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون)، وقوله سبحانه في سورة الفجر آية رقم (27): (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)، وقوله سبحانه في سورة الأنعام آية رقم (93): (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون)، وقوله تعالى في سورة التوبة آية رقم (85): (إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون). أما الروح، فقد وردت في القرآن الكريم لمعانٍ مختلفة وهي - والله أعلم - مؤتلفة؛ فقد جاءت بمعنى النفخة كما في قوله تعالى في سورة الحجر آية (29): (فإذا سّويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وكذلك في سورة ص. وقوله تعالى في سورة التحريم آية (12): (ومريم التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا). ووردت بمعنى القرآن الكريم كما في قوله تعالى في سورة الشورى آية (52): (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا). وفي سورة النحل آية (2): (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده). وفي سورة غافر آية (15): (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق). وهي جبريل عليه السلام كما في قوله تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين). فنفخة الروح في آدم عليه السلام، تكريم له وتأهيل وتمهيد لتلقي العلم، والوحي، عن الله عز وجل، والآيات في سورة البقرة (من 30- 33) من قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) إلى قوله (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) فيها إشارة إلى هذا المعنى، والله أعلم. والقرآن الكريم، وسائر الكتب السماوية، كلام الله تعالى ووحي منه ورحمة ونور وهدى، اختص بها في الأرض بني آدم؛ وحيا للرسل، وخطابا لجميعهم وتكليفا، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور. قال الطبري في تفسيره 2/224: جميع كتب الله جلّ ثناؤه التي أوحاها إلى رسله، روحًا منه؛لأنه تحيا بها القلوب الميتة، وتنتعش بها النفوس المولية، وتهتدي بها الأحلام الضالة. وجبريل، عليه السلام، هو الروح الأمين الذي ينزل بوحي الله وكلامه. والروح تنفح في الإنسان، كما بين الحديث، وتخرج منه مع خروج نفسه. وهي منحة خاصة ببني آدم، لم يرد في النصوص أنها تنفخ في الكائنات الحيوانية مما نعلم، سواهم، والله أعلم. أما الحديث، فإنه متفق عليه، من رواية ابن مسعود وأنس بن مالك، وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين، على اختلاف في بعض ألفاظه، وعدم ذكر النفخة في بعض الروايات، وما خرجه الإمام البخاري ففي كتاب القدر وكذلك الإمام مسلم، وذلك بتأكيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث بعد ذكر النفخة وكتب الرزق والعمل والأجل والسعادة والشقاوة بقوله: (فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها...) والحديث أصل في هذا الباب. وتتعلق بالحديث إضافة إلى حكم الإجهاض، أحكام غسل السقط، وإرثه، فهل يوقف العمل بكل ما ورد به مما يتعلق بالشريعة، والعقيدة؟ أما منهج العلماء في الترجيح بين الأحاديث والعمل بما رجح لديهم فمناهج مبنية على قواعد علوم الأصول، والحديث، ومذاهبهم في ذلك معروفة. • مستشار شرعي - جامعة أم القرى