من الصعب التكهن بمعمار عامٍ يجعل سيادة القانون الدولي فوق المنازعات، فقد انتهت الحرب الباردة مع آخر حطام للاتحاد السوفياتي، وجاءت العولمة بديلاً موضوعياً لإنشاء عالم جديد تتحكم بأدواته وألعابه قوى الاقتصاد التي تتحرك على أكبر رقعة عالمية متخطية الحواجز الجغرافية والعرقية، والأثنية، وحتى هذا العبور الهائل، لم يبدّل من واقع بدأ ينشأ، حين تبدلت اللعبة وأصبحت آسيا هاجس الجميع، وموقع التطلعات لآفاق سلمية ومخاوف من بروز عمالقة جدد يصنفون، في المستقبل القريب، والبعيد، أنهم سيتسببون في قائمة مآزق عسكرية وغذائية وانتشار هائل بين كل القارات، وبالتالي صارت الصين والهند قوتيء الحركة القادمة، وميدان استقطاب وتحالفات أمريكا، وربما الغرب الأوروبي كله، معهما، أو ضدهما.. الهند التي ظلت إلى ما يزيد على نصف قرن حليفاً للشرق المتمثل بالاتحاد السوفياتي وصاحبة أفضل نظام ديمقراطي، كانت تديرها وتحكمها الأحزاب اليسارية، لكن المتغيرات الجديدة جلبت أمريكا لأن تكون الحليف الاستراتيجي عندما وقّعت صفقات أسلحة متقدمة، ومفاعلات نووية واستثمارات في مجالات عديدة يأتي في أولوياتها التعاون التقني بالبرمجيات وسوق هذه الصناعة الحديثة والمتقدمة، والهدف أن تكون الهند هي المقابل الموضوعي، والعملي أمام العملاق الصيني الذي خطف الأسواق، وذهب إلى مواقع ظلت احتكاراً أمريكياً وأوروبياً عليهما.. الصين ليست العملاق النائم حتى لو بقيت تطرح نفسها خارج التنافس العسكري أو عقد تحالفات وصفقات عسكرية، لكنها لا تخفي اهتمامها بالمجاميع الصينية المهيمنة على اقتصاديات أكثر من دولة آسيوية والتي تعقد معها اتفاقات كبيرة، وحتى كوريا الشمالية التي ظلت آخر القلاع (الماوية) لعبت دوراً مهماً لجذبها لقواعد الحركة السياسية والاقتصادية المعاصرة عندما أقنعتها بحوار مع أمريكا واليابان، وكوريا الجنوبية جاءت نتائجه بتفكيك مفاعلاتها النووية مقابل مغانم اقتصادية هائلة، وتبقى الباكستان الحليف الأهم رغم وجودها حليفاً تقليدياً لأمريكا، لكنها تؤمن أن هذه الدولة النووية خط حماية متقدم ضد أي تنافس عسكري مع الهند، وهنا تصاعدت الاهتمامات في السنوات الأخيرة، أن تدخل الباكستان لائحة الدول المهمة ليس فقط بأسباب التوترات التي تشهدها أفغانستان، والمتشابكة معها قبلياً وحدودياً، وحتى مذهبياً، لكنها تدرك أن أمريكا صديق لا يوثق به، وبالتالي يصبح رصيد الصين أهم في المستقبل البعيد.. إذن الصين، وإن ظلت شبه معتزلة عن المعارك العالمية، وبؤر الصراع، فهي موجودة على خارطة الأزمات، والدليل أنها تتحرك داخل أفريقيا ووسط قلاع الحماية الغربية والأمريكية بغية عقد اتفاقات على بناء هياكل تعاون مع قارة لا تزال بكراً.. بل وتذهب لأبعد من ذلك داخل المجال الاستراتيجي الأمريكي في أمريكا الجنوبية، وحتى دارفور السودانية التي تشهد معارك تصفيات قبلية وعرقية فإن سبب الصراع يعود لمتقاتليءن من الخارج يغرقهما ما يقال عن ثروات هائلة، نفط ويورانيوم ومياه جوفية، ومساحات قادرة على قبول استثمارات كبيرة، إذن هناك حرب باردة أخرى تلوح في الأفق، وهذه المرة ميدانها العالم بأسره، ومحرّكها الشرق والغرب معاً..