يدخل قاعة المحكمة مطأطئ الرأس مكسور الخاطر. تُمرر ذاكرته شريطا استعراضيا يمر على طفولته البريئة ثم تخرجه فمحاولاته المتكررة للحصول على وظيفة من دائرة إلى أخرى سنة بعد أخرى. وتذكر كم فرح بالوظيفة رغم تواضع الراتب وخجله من ذكر وظيفته إذ يفضل أن يجيب بعبارة ببغاوية (أعمال حرة) لكل من سأله عن وظيفته. ثم يتسارع شريط حياته إلى ذلك اليوم الذي أوقف فيه لأنه تسبب في فقدان بعض المال العام. لم يصدق أنه متهم باختلاس ذلك المال. يتذكر أنه لم ينبس ببنت شفة من هول المفاجأة. هو يدرك أنه لم يختلس. ولابد أنهم سيصِلون لتلك النتيجة عاجلا أم آجلا. قد يكون قصّر في متابعة بعض موظفيه ولكنه لم يختلس. فجأة انفجر في قاعة المحكمة باكيا. كان البكاء يسبق إيمانه ببراءته. تمنى لو لم يحصل على الوظيفة، بل تمنى لو لم يخلق. أمر القاضي الحضور بالسكوت ثم بدأ الادعاء بسرد الدعوى. القاضي يطلب من المتهم الوقوف. يقف المتهم وهو لايدري أحقيقة تلك أم خيال. إن هذا الماثل أمامكم قد تورط في اختلاسات مالية حكومية، فهو قد وقع على استلام عدد من المكانس اليدوية وعندما جردت الكميات وُجِد أنها ناقصة عشر مكانس سعر الواحدة منها 2000ريال. كما تبين أنه أقر باستلام 10000مروحة يدوية (مهفة) من الخوص وتبين نقص 500مروحة من المخازن، سعر المروحة الواحدة 200ريال. وبهذا يصل سعر المراوح المسروقة إلى مائة ألف ريال. كما أنه أقر باستلام برادات ماء لاتحتوي على غاز الكلوروفلوروكربون (CFCs) الضار بالبيئة فهي صديقة للبيئة ومصنوعة من الفخار (بالطبع يقصد الزير) سعر الواحد منها خمسون ألف ريال وتبين أن هناك (زيرين) مفقودين. يا حضرة القاضي إذا جمعنا قيمة ما سرقه هذا المواطن فإن ذلك يصل إلى مائتين وعشرين ألف ريال. يا حضرة القاضي أرجو أن تجعل هذا اللص عبرة لغيره كي لا يُضيِّع أمثاله جهود الرجال المخلصين من أبناء هذا الوطن. كنت أنتظر أن يتم صاحبي قصة ذلك الموظف المسكين ولكنه قطعها! فقلت: ثم ماذا؟ فقال: لم أحتمل فخرجت من المحكمة. وأضاف: كنت شاردا ولم أُفِق إلا على صوت تكسر زير ركلته برجلي من دون أن أدري فقد كنت مستغرقا في محاولة فهم ماحدث. صرخ صاحب الزير: (ماتشوف؟!). لم أجادله وقدمت له خمسين ريالاً تعويضا عن زيره المكسور (برادة الخزف). ابتسم وقال (ما ودك تكسر الزيره كلها)؟!! كنت قد تجاوزت صاحب (الزيره) وأنا أفكر في ذلك المتهم. ترى ماذا لو كان مسؤولا عن التلاعب بسوق الأسهم. أو صاحب وكالة سيارات تستغل وتستغفل المواطنين. أو...أو...أو؟